إنَّ الموضوع المُتَعَلِّق بالعنوان (جوهر القضية)، الذي أخذت وسائل التواصل الاجتماعي تُرَوِّج له في الآونة الأخيرة، لم يُقَدِّم الرسالة بشكل صحيح؛ بل أنَّه خلط "الحابل بالنابل" دون توضيح المغزى الرئيس من وراء فكرة الغلي (لِمرة ثانية) وطبيعة الماء المُستهدف من وراء إثارة كل تلك الزوبعة، التي أحدثت ضجة بين الكثير من "ربات البيوت" وبين "مَنْ يُحَضِّرون الشاي والقهوة على طريقتهم الخاصة".
فعن أيٍ ماء يتحدث هؤلاء؟ ولماذا تم تقييده بالمرة الثانية؟
وهنا بشكل عام أُؤكد على أنَّ الهدف من وراء غلي الماء في مقامه الأول هو التعقيم؛ بل وأنَّ خطوة التعقيم قد تأتي كمرحلة أخيرة من مراحل إعداده ليكون بعدها صالحًا لشُرب الآدميين، أي بعد الانتهاء من مرحلة إزالة الشوائب وتكريره والتأكِّد من أنَّ ما تم الإشارة له في تلك النشرات والفيديوهات من مواد كالزرنيخ والنترات والفلوريد تقع ضمن نطاقها الطبيعي المدروسة فيه؛ أو بعد استخلاصه من الينابيع الجوفية الصافية أو المُعالجة كيميائيًا للتأكُّد من خلوه من أي أخطار بيولوجية.
بل وأُؤكِّد لمُرَوِّجي مثل هذه الطرح: "بأنَّ الأمر لا يقتصر على تلك المواد الثلاث الآنفة الذكر، فهناك غيرها الكثير من معادن بعضها ضار وبعضها ضررها نسبي يتم تنقيتها تمامًا أو تخفيفها لأجزاء من المليون لِيستفيد الجسم البشري منها؛ لأنَّه أساسًا يحتاج للاستفادة والتزود من معظمها، إلا أنَّ تلك الاستفادة يجب أنْ تكون بِمُعَدَّلات مجهرية".
أمَّا الحديث عن "مركبات مُتَطايرة" (على حد تعبير بعضهم)، فقد استوقفني كثير هذا المصطلح!
فما هي هذه المواد المُتَطايرة التي ستتطاير من الماء؟
أمَّا إنْ كان الماء في أساسه يحتوي على مواد ضارة ومعادن بِمُعَدَّلات عالية (على فرضية أنَّنا نتحدث عن ماء غير صالح للشُرب من أساسه) فإنَّ مواده الصلبة حتمًا ستَتَرَكَّز فيه بفعل الغلي "زائدةً الطين بلة"، خصوصًا حينما يُترَك الماء يغلي لِفترة طويلة، فيَتَسَبَّب في تبخُّر جزء يُعتَد به منه. ومن هنُا يتم إدانة عبارات بعض هذه النشرات والتسجيلات الرامية لِربط موضوعها في إحدى جزئياتها بـالقول ما فحواه: "خاصة مياه الحنفية لتعقيمها"! وهُنا وقعت في مصيدة الكلام غير الدقيق وغير الواقعي، خصوصًا حينما يوجه التحذير للمناطق التي لا تعتمد على مياه الحنفيات، أو المناطق التي يُعَدُّ ماء الحنفيات الوارد لِمنازلها (كما هو الحال في بعض الدول الأوروبية) صالحًا للشُرب ويتم تمريره بطريقة مدروسة في أنابيب مُعالجة كيميائيًا تُبقِي محتواه ضمن المُعَدَّلات المنصوص عليها من قبل مؤسساتهم الرقابية.
أمَّا حينما يكون الماء مكررًا ونقيًا (وليس بماء "حنفيات") ومواده الصلبة الموجودة فيه تقع ضمن المُعَدَّل المنصوص عليه من قبل المؤسسات الصحية التخصصية المُراقبة لمعايير الجودة، كما يُفتَرَض أنْ يكون عليه الوضع مع "الماء المُحلَّى" (إنْ كانت معاييرها مُطابقة فعلًا لِمَا هو مكتوب على عبوتها!)، ويتم غليه لأغراض منزلية تتعلق بأمور الطبخ وما شابهها، فإنَّ هذا الأمر لن يُغير كثيرًا من تركيبته الكيميائية، وإنْ تغير تركيز بعض مواده فإنَّه سيرفعها ضمن نطاق المُعَدَّل المتفق عليه أو في حدوده، مما يعني أنَّه لن يكون له أي تأثير سلبي على مستوى الصحة يُذكَر ولا حتى أي تأثير آخر يستحق التعليق أو المُجادلة عند مُخاطبة الشارع العام (وهذا ما غفلت عنه تلك النشرات والتسجيلات التخويفية والتي تُثير الريبة ويجب الحذر منها ومن أمثالها خصوصًا في ظل المرحلة المُضطربة التي نمر بها!).
أما السؤال المطروح بعد سرد كل تلك النقاط الآنفة الذكر، هو: ما سر ربط عدد مرات الغلي بجوهر الضرر؟
هنا أقول: أنَّه في حال فرضنا أنَّ الضرر واقع لا محالة (متجاوزين فهمنا العلمي لتركيبة المياه ومواده الصلبة الذائبة فيه)، فمن الأولى أنْ يشمل الأثر السلبي - على مستوى الصحة - الغلي من المرة الأولى؛ فَلِمَى تم تقييده بالمرة الثانية؟ (أو على حد عبارة مُرَوِّجي تلك النشرات والتسجيلات: "إعادة غليه مرة أخرى")؟
بل وأنَّ ما يجب الإشارة له في هذا المقام (وهو فقط للتوضيح): أنَّ عملية الغلي قد تُستَخدَم أيضًا عمدًا كوسيلة تؤدي لِلحصول على بخار الماء المُستخلَص من بعض أنواع المياه غير الصالحة أساسًا للشُرب (حيث يتم مُعاملته تحت درجات حراة عالية بطرق مُتعددة وبأشكال مُختلفة من أجل الوصول لِهدف تحليته). فحين يتصاعد بخاره يمر في أنابيب من أجل تكثيفه (تاركًا وراءه الأملاح والشوائب)، ليتم تقطيره مرة ثانية كماء مُحلى قابل بعد المُعالجة للشُرب دون أنْ ينتج عنه أي ضرر صحي؛ وهي الطريقة العكسية للموضوع المُشار له أعلاه (على غرار ما يحصل في شركات التحلية التي تستخلص ماء الشُرب من البِحَار). فهل يتسبب هذا الأمر في تبخر "المركبات المُتَطايرة" الأولية قبل "تحولها لكتلة واحدة" (على حد تعبير تلك النشرات والتسجيلات) واختلاطها بالماء المُحلى؟
أعتقد هذا موجز مختصر يُفَنِّد ما يتم الترويج له بطريقة خاطئة بل وتخويفية (قد تُغَيِّر من بعض العادات المنزلية أُثناء الطبخ)؛ ويكشف ثغرات الطرح فيه والذي لا يستسيغه من يعلم بحقيقة وجوهر هذا المجال من "علوم المياه وطبيعة تعقيداته وتداخلاته الجُزيئية"!
وفي حال أصَرَّ مُرَوِّجو هذه النشرات والتسجيلات على مثل ما جاءوا به من طرح، فيجب عليهم الحديث حينها في الدور العلمية التخصصية، بل ويجب عليهم الاستشهاد بالعناوين الدقيقة من المياه والابتعاد عن التعميم (بعيدًا عن سرد عبارات تخويفية لعوام الناس)، ليكون الطرح بعدها منطقيًا والنقاش من قِبَلهم علميًا؛ أو أنْ يكون طرحهم (وهو خيار الثقات من المتخصصين) مفهوم ومبني على أسس علمية واضحة تم تحقيقها وتنقيحها علميًا من قبل أهل الاختصاص!
*أكتفي بهذا القدر، ونستطيع أنْ نتوَسَع ونُسَلِّط الضوء بشكل أكبر على بعض المحاور التوسعية المُستَهدِفة لزوايا نقاشية مُغايرة لِمَا تم ذكره أعلاه تلبي قناعة الناس وتحقق المصلحة العامة في نفس المجال في مقالة مُستقبلية، إنْ تطلب الأمر.
0 comments:
Post a Comment