تنفق الأسماك للشواطئ الضحلة في عملية أقرب ما تكون للانتحار الجماعي، عندما تتعرض بشكل عام لأحد ثلاثة عوامل رئيسة: (1) تعرضها لاضطراب مرضي إما بسبب إحدى الفصائل الميكروبية (بكتيرية، فيروسية، فطرية، أو طفيلية، أو غيرها من فصائل)، أو بسبب تغير فسيولوجي أدى لتشكل حالتها المرضية، (2) وجود ملوثات بيئية (غَازِيِّة أو صلبة)، مصدرها المجاري أو المصانع التي تلقي بنفاياتها في تلك البقعة الجغرافية التي حدثت فيها حالة النفوق الجماعي للأسماك، (3) انعدام الأكسجين المفاجئ في جغرافيتها البحرية الموجودة في منطقة معيشتها الرئيسة مما يضطرها للصعود للطبقات العليا (تاركةً موطنها الأم بعد أن لم تحتمل غربتها فيه)، أو أنَّه يدفعها للاقتراب من المياه الضحلة حتى لا تختنق.
ويُلاحظ بشكل عام (كما وردنا- في المقام الأول- من بعض الزملاء الباحثين في بعض الدول الغربية الذين تحدثت معهم في هذا الأمر من أجل الوقوف على حقيقة ما يجري من قبل من له باع في هذا المجال؛ وكما نما لأذهاننا- في المقام الثاني- بعد استقصاء المعلومات المحلية من خلال التحدث لأهل الخبرة في مجال الصيد البحري؛ وكما تحققنا منه أيضًا- في مقامه الثالث- بعد مراجعة البيانات العالمية التي تعنى ببحوث ودراسات هذه الظواهر): بأنَّ السبب الأول المذكور أعلاه هو سبب يكاد يكون مستبعدًا (أو أنَّه ليس سببًا أوليًا، وقد تشكل في مرحلة لاحقة مُرتَكِزًا على السببين الأخريين، هذا طبعًا إن كان داخلًا من ضمن الثلاثة أسباب المذكورة، أي أنَّه أقرب ما يكون لصراع الأسماك مع الطبيعة أكثر من أنْ يكون شكوى من حالة مرضية)، خصوصًا إذا ما كان هناك ما يدلّ على وجود السبب الثاني (أي التلوث البحري بمواد المجاري أو المصانع) في البقعة التي تمت فيها عملية انتحار الأسماك (نفوق الأسماك)! بل وأنَّ السبب الثاني متداخل لحدٍّ كبير مع السبب الثالث (أي قلة الأكسجين)؛ وكلاهما قد يؤديان في نهاية المطاف لتشكل السبب الأول (إلا وهو الاضطراب المرضي)، كما لمحنا له أعلاه؛ أي أنَّ هذه العوامل الثلاث تكاد تكون مُتداخلة لحدٍّ كبير فيما بينها ويُصعب تفكيكها إلا من قبل من يعمل بِحُرِّيَة بحثية وتطلع دراسي لكشف الحقيقة دون أيّ تأثير من أيّ أحد!
وللإضافة التوضيحية، فإنَّ مثل هذه الظواهر وإنْ حدثت، فإنَّها غالبًا لا تحدث إلا في الأنهار المُطِلَّة على المصانع والتي تُلقَى فيها نفايات الأدميين بشكل "هستيري"، بل وأنَّ هذه الأنهار تكاد تكون من نوعية الأنهار التي تخترق بعض دول العالم الثالث وما شابهها من دول، كالذي حدث في إحدى الدول التي تطل على نهر النيل من نفوق للاسماك من نوعية "البلطي"! بل أنّه وإنْ حدث في إحدى البحار، فأنَّ أسبابه غالبًا ما تكون معروفة ولا تُثير ألغازًا وأُحْجِيّات غامضة، بل وأنّها لا تستدعي عادةً أيّ تحاليل مُتضاربة!
بعد هذه المقدمة، أذكر بأنَّ ما يحدث على شواطئ سيهات من انتحار الأسماك مجتمعةً وبشكل مستمر (بمعدل شبه سنوي، وفقط في السنوات الأخيرة، وليس في أيام الآباء والأجداد) والقابل للحدوث في مناطق جغرافية مجاورة بها نفس المُعطيات كالقطيف أو الدمام أو غيرهما لا يُفسَّر- على مستوى التنظير المبدئي- إلا بسبب واحد، ألا وهو وجود كميات ضخمة من ملوثات المجاري التي تصب في تلك المنطقة أغلبها التي تحوي مادة البولينا وبقية سموم فضلات الأنسان، والتي تتفاعل عند ارتفاع درجة الحرارة، مما يُؤثر على تركيز الأكسجين في المستويات "تحت السطحية" من المياه البحرية فيدفع بالأسماك للصعود للمستويات "فوق السطحية" تارةً ومنغمسةً في الماء تارةً أخرى حتى تتمكن من التنفس، أو للذهاب للمياه الضحلة حتى لا تختنق، فتظهر على أنَّها تنتحر! والحقيقة هي أنَّها واقعة بين سندان كميات المجاري والملوثات التي تُلقى في تلك المنطقة وقلة الأكسجين بسبب تفاعل مواد التلوث مع الحرارة ومطرقة الاصطياد في فخ المياه الضحلة! وهي أيضًا لا تستطيع الذهاب للمياه الأعمق لأنَّها لا تناسب طبيعة تركيبتها البيولوجية واحتياجتها المعيشية! بل ويُفاقم هذه الأمر في مثل هذه المناطق الجرافات التي تعمل ليل نهار وعمليات الردم التي تخلق حواجز رملية أثناء دفنها للشواطئ الخليجية لإعطاء مساحة أعمق داخل المياه البحرية من أجل الحصول العقارات التجارية!
ويُدلل على هذا التحليل أنَّنا لو قمنا بعزلها ووضعها في منطقة أخرى بعيدة عن المعايير التركيبية المُخيفة (بفعل البشر) لخليج سيهات فإنَّها ستنطلق سابحةً دون أيّ معوقات (وهو ما قمنا باختباره مع بعضها، فلاحظنا بأنَّها تنطلق وفي كامل نشاطها). يُضاف لهذا التحليل، أنَّنا لاحظنا قبل فترة تَكَوُّن ما سُميَ بالبقع الوردية اللون في نفس منطقة نفوق الأسماك الجماعية المعنية في نقاشنا هذا (وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة على مصدر تلك البقع الوردية في تلك المنطقة الجغرافية على وجه الخصوص).
وللتأكيد، فلو كانت تلك الأسماك مريضة أو بها علة مرتبطة بالسبب الأول (أيّ السبب المرضي) لما تمكنت من السباحة ثانية بعد وضعها في أحواض بحرية بدرجة حرارة طبيعة وبتركيز اكسجين مناسب كما فعلنا (إلا أنَّنا لا نستطيع أنْ نجزم بأنَّها فعلًا لم تتأثر لحظتها بما تعرضت له من علمية نفوق للطبقات الضحلة هربًا من القاع، حيث إنَّ أيّ سبب من الأسباب الثلاثة المذكورة أعلاه يؤدي بشكل تلقائي لحدوث السببين الأُخريين، كما حَلَّلنَاه في المقدمة؛ وهذا الأمر يحتاج للمزيد من البحوث والمحاور التحقيقية الأصيلة).
إذًا التنظير الأولي المنطقي هو: أنَّها درجة الحرارة التي تؤثر على تفكك بعض المواد التي تُصب (غالبها من المجاري) في المناطق البحرية (التي تُعَدَّ أحد الثروات الطبيعة من ضمن مجموعة ثلاث ثروات رئيسة في المنطقة، إذا ما أُضيفت لها مزارع النخيل التي قُلعت عن بُكرة أبيها، وبحيرات النفط التي تطفو المنطقة برمتها فوقها)، والتي عند تفككها- أعني مواد المجاري- تؤثر على تركيز الأكسجين في الطبقات السفلى مما يؤثر على بقاء الأسماك فتندفع للأعلى أو المناطق الضحلة بحثًا عن الأكسجين!
ولو كان هناك سبب آخر للاحظنا حدوث نفس الظاهرة في مناطق أخرى قريبة متوافقًا في توقيته مع ما حدث في خليج سيهات هذه المرة (علمًا بأنَّه قد حصل سابقًا في مناطق أخرى تتطابق معطياتها مع ما هو موجود في خليج سيهات كالذي حدث على بعض جهات شواطئ القطيف وذاك الذي حصل في بعض شواطئ الدمام)! إلا أنَّ هذا الأمر- وكما أنُظِّر له مُعتمدًا على المُعطيات الحالية- سيتكرر ثانية بل وسيحدث في المستقبل القريب في مناطق مجاورة أيضًا (ليس تشاؤمًا، بل لوجود نفس الأرضية المُستوعبة لنفس العوامل التي فعلت فعلتها في خليج سيهات- المعروف في القدم بخصوبة تربة بحره لنمو الأسماك- في المناطق المجاورة، ألا وهو ما تصبه أنابيب المجاري من مواد على مدار الساعة دون مبالاة ودون حسيب أو رقيب في أحد مصادر الثروات الطبيعة في المنطقة، ألا وهو البحر). حيث أنَّنا لم نكتفي بردم البحار بل أخذنا بإلقاء مُخلفاتنا النتنة فيها (التي لا يتحملها من يقترب من الشاطئ) بطريقة إجرامية وبكل ما يحمله هذا المصطلح من معنى!!!
وأعتقد بأنَّ ما يقوله بعضهم بأنَّ الحرارة وحدها هي السبب، هو استغفال لعقول الناس ومحاولة للتخفيف من وطأة الحدث المريب والجريمة المرتكبة في حق تلك المنطقة! فالموضوع ليس بمواد قد ولدت فجئة وليس مجرد ارتفاع في درجة الحرارة، بل هو (كما نُنظِّر له بالطريقة الرياضية والتسلسل المنطقي للأحداث على قاعدة بحثية دراسية) ما لجأنا له من تحليل أعلاه! ونحن هنا نُناشد الجهات الرسمية للتحقيق في أصل تلك الجريمة؛ بل هي دعوى لأنْ يقوم كل من يضع نفسه في موضع المسؤولية الإنسانية والوجاهة الاجتماعية للقيام بدوره الحقيقي في إيصال أصوات الضعفاء من أبناء المنطقة للجهات الرسمية!
الأمر الأخر، هو أنَّ ما لاحظناه من قبل بعضهم: قيامهم بجمع تلك الأسماك (وهي تحارب بكل ما أُتيَت من قوة من أجل النفاذ مما هي فيه) في عملية أشبه بالصيد الرخيص والجاهز للتجميع (وبعض هذا البعض وبشكل مؤكد كان يُحَضِّر لبيعه ثانية- مُتاجرةً- على الناس على أنَّه صيده الثمين في غمرات البحر وبعد محاربته للأمواج العاتية)، دون تكلفة نفسه عناء معرفة السبب وراء حدوث تلك الظاهرة، أو حتى التحقق من سلامة تلك الأسماك والتأكد من أنَّها لم تتأثر فعلًا من وجودها في مناطق بها ملوثات تفككت موادها بفعل ارتفاع درجة الحرارة (كما تُشير المُعطيات)!
ولقد وجهت السؤال لأكثر من جهة مختصة في مجال الشرع للإدلاء بما تراه مناسباً في هذا المجال؛ إلا أنَّني ومن خلال هذا المنبر أُعيد السؤال ثانية لكل من يستطيع أنَّ يُعَلِّق على هذا الموضوع من وجهة نظر شرعية، وهل هو جائز أم لا؟ خصوصًا أولئك الذين قاموا بتجميعه من أجل التجارة! وأكتفي بالقول (مُنطلقًا من قاعدة طبية) بأنَّ كل من يقوم بهذا التجميع الرخيص لأسماك تشتكي من إجرامنا نحن البشر، يضع نفسه في خطر الإصابة ببعض الأمراض (كوننا لم نجزم حتى الآن بحقيقة ما تشتكي منه تلك الأسماك، بعد مُعاناتها واندفاعها للوصول للمياه الضحلة).
وسؤالي الأخير، هل تعتقد عزيزي القارئ، أنَّ ساحل الذهب الأسود كان ليكون بهذا الوضع؟ وأنَّ الأسماك كانت لتنفق منه بهذا الشكل لو لم يكن للإنسان (ذلك الأنسان الجشع) يد طُولى في الأمر؟
0 comments:
Post a Comment