هناك مجموعة من المُقدِّمات التي سأبدأ بها قبل الدخول في موضوع العلاج الجيني الذي انتشر الحديث عنه مؤخّرًا في الصحف العالمية وتم تداوله على نطاق واسع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمُتَعلِّق بمرض الأنيميا المنجلية (السكلسل)، من أجل أنْ نفهم حقيقته وما يدور في إطاره من مُعطيات دقيقة.
أولًا، لابد أنْ أُوضِّح لكم بأنَّ مرض الأنيميا المنجلية هو أحد الأمراض الوراثية التي فيه تتدنى كفاءة عمل الهيموجلوبين بسبب طفرة جينية تحدث في أحد مواقعه، فيتحوّل بعدها إلى هيموجلوبين غير طبيعي يُسمَّى هيموجلوبين "إس" (S)، بدلًا من هيكليته الطبيعية عند البالغين التي تُسمّى بهيموجلوبين "أ" الأولي (HbA1)، الذي يكون مستحوذًا على نصيب الأسد عند الأصحاء، إذ تصل نسبته عندهم إلى حدود 97% وما تبقّى - وهو الفُتات - يكون لبقية الأنواع؛ فتتغير على إثر هذا التحوّل شكل خلايا الدم الحمراء من الشكل البيضاوي المُتعارف عليه (كما هو الحال عند الأصحاء) إلى الشكل الهلالي غير المرن (كما تظهر عند مرضى الأنيميا المنجلية)، مما يؤثر على وظيفتها الرئيسة في نقل الأكسجين من الرئتين إلى الأنسجة ومن بعد ذلك عودًا إليها مُحمَّلًا بثاني أكسيد الكربون؛ وهو الأمر الذي ينتج عنه أيضًا - عندما تتوفَّر لها الظروف المناسبة كالبرودة الشديدة أو الحرارة المرتفعة أو عند تدنِّي مستوى السوائل في الجسم وغيرها من عوامل أُخرى لا يسعى المجال لتغطيتها جميعًا في هذه المُقدِّمة - انسداد الأوعية الدموية الصغيرة وانسدادات أُخرى تحصل في بعض أعضاء الجسم الحيوية بسب صعوبة حركة هذه النوعية من الخلايا وعدم مرونتها وتراكم بعضها فوق بعضها الآخر في تلك الممرات الضيِّقة. وعلى إثر ذلك تحدث نوبات الألم عند مريض أنيميا الدم المنجلي.
ثانيًا، لابد أنْ نعرف أنَّ كل ما هو متوفِّر حتى الآن من عقاقير دوائية يستخدمها مرضى الأنيميا المنجلية هي عقاقير تُخفِّف من حدة النوبات التي يُعانون منها وفي حدودٍ ضيقة (وإلى حدٍ ما قد تُخفِّف أيضًا من الأعراض والمُضاعفات المُزمنة التي قد تنتج لديهم بفعل وطأة المرض)، لكنها لا تستأصل الخلل الموجود في الهيموجلوبين من جذوره بصورتها الشفائية الدائمة وليس العلاجية المؤقتة، الذي يجعل من الخلايا تعاود تصحيح شكلها البيضاوي الأصل ووظيفتها المرتبطة بنقل الأكسجين وأخذ ثاني أكسيد الكربون في حركتها الدائمة بين الرئتين والأنسجة، وبحيث تكون بعد ذلك قادرة على الانتقال بمرونة في داخل الأوعية الدموية - سِيَّمَا الصغيرة منها - دون أنْ تتكتَّل في ممراتها الضيقة وتُسبِّب نوبات الألم.
ثالثًا، وهنا لابد من لفت الانتباه إلى أنَّ كل الخلايا الرئيسة التي تسبح في مجرى دورتنا الدموية (ومنها خلايا الدم الحمراء التي يتم تجديدها كل ثلاثة شهور، حيث أنَّ عمرها الافتراضي هو فقط 90 يومًا) يتم تصنيعها في نخاع العظم الذي يتم توصِّيفه بمصدر التصنيع كلما انخفض تركيزها في الدم، ومن خلية أم واحدة تُسمَّى بالخلية الجذعية. وعبارة الخلية الجذعية هنا هي كلمة السر في تقنية العلاج الجيني الذي تم الإشارة له في الثاني من مارس في مجلة انجلترا الحديثة لطب الباطنة (The New England Journal of Medicine)، وهو ما سأُبيِّن أهم تفاصيله في الفقرات القادمة.
رابعًا، وهنا النقطة الواجب هضمها جيدًا (اعتمادًا على ما جاء في النقاط السابقة)، وهي أنَّ هناك – على مستوى التنظير - خطان يستهدفان فكرة ايقاف ألم ومعناة مرضى الأنيميا المنجلية (ولاحظ أنَّني أقول على مستوى التنظير، لا أقلُّها في أيامنا هذه): -
- علاجية مؤقتة ويتم الاعتماد عليها مدى الحياة (وهي التي لمَّحتُ لها في المُقدِّمة الثانية، أعلاه). وهي تنقسم أيضًا لمجموعة من الأقسام، بعضها مُسكِّن للألم كما تفعل غالب العقاقير مُتعدِّدة الأسماء التي يتم تقديمها للمرضى أثناء حدوث النوبات، وبعضها مُحفِّز لمصدر الإنتاج (أي نخاع العظم) من أجل إنتاج كمية أكبر من خلايا تمتع بكفاءة عالية في حمل الأكسجين كما يفعل - وعلى سبيل المثال وليس الحصر - عقار الهيدروكسيوريا؛ وهناك غيرها من العقاقير والأغذية التي تعمل في خطوط مُغايرة ولكنَّها تنتمي لنفس العنوان (أي العلاجية المؤقتة التي يتم الاعتماد عليها مدى الحياة).
- شفائية دائمة وتستهدف مصدر تصنيع الخلايا في نخاع العظم من أجل إزالة العلة المرضية من جذورها (كما يتم تقديمها في الدور الاكاديمية ومراكز البحوث الإكلينيكية). وهي قيد الدراسة والبحث حتى يومنا هذا، وتنقسم بشكل عام إلى قسمين (أ): الأولى تعتمد على استبدال نخاع المريض المُصاب بنخاع آخر مأخوذ من شخص سليم؛ وهي تقنية تكمن في أهمية توفّر شخص مُطابق للمريض المُصاب بالأنيميا المنجلية كي لا يتم رفض النخاع المأخوذ منه بواسطة جهاز المريض المناعي، والذي غالبًا يكون (إنْ توفّر) أحد الإخوة أو الأخوات. (ب) أمَّا الثانية، فتعتمد على سحب خلايا دم المريض الجذعية نفسه دون الحاجة لِمُتَبرِّع، ومن ثَمَّ تصحيحها في المُختبرات من خلال إصلاح جين واحد من الجينين المعطوبين فيها المسؤولين عن تشكُّل هيموجلوبين "إس"، من خلال استعمال أحد الفيروسات المُنتمية للمجموعة البطيئة (lentivirus)، الذي يتم استخدامه كناقل للجين العلاجي التصحيحي؛ حيث يعمل هذا الفيروس المُستخدم في هذه العملية - عندما يُوضَع مع الخلايا الجذعية في خارج جسم المريض - على إضافة جين مضاد للأنيميا المنجلية في نصف الأدرع الوراثية المعطوبة المُكوِّنة للهيموجلوبين التي تُسمَّى بأدرع بيتا في الجزء البروتيني منه؛ حيث تتطلب هذه العملية التقنية الدقيقة والمُعقَّدة من قبل المُتخصِّصين في الهندسة الوراثية عدة أسابيع ينتظر فيها المريض عادةً خارج المشفى ولكن قريبًا منه تحسبًا لاستدعائه للتنويم مرةً ثانية في أي لحظة متى ما أصبحت خلاياه الأم جاهزة. ليصبح - بعد ذلك - نخاع المريض المُصحَّح وراثيًا محتويًا على جينين أحدهما معطوب والآخر سليم (Ss)، بدلًا من وضعيته السابقة المُتمَثِّلة في وجود جينين معطوبين (ss)، أي أنَّه يُصبح شبيه بحالة الحامل للمرض؛ وللفت الانتباه فإنَّ السليم يظهر بجنين سليمين (SS). ومن بعدها يتم علاج المريض ببعض العقاقير الدوائية الكيميائية أو من خلال الإشعاعات لمدة تصل لحدود أربعة أيام من أجل إزالة خلاياه الجذعية المريضة الموجودة في نخاعه العظمي بشكل كلي (أي قبل حقنه بأي خلايا جديدة). وفي الأخير، يقومون بإعادة الخلايا الجذعية المُعالجة بواسطة الأنابيب الموصّلة بالأوردة إلى مجرى الدم (على غرار العملية التي يتم فيها نقل الدم). وبعد اكتمال هذه الخطوات التتابعية، تبدأ الخلايا الجذعية الجديدة التي تم مُعَالجتُها خارج الجسم - بعد توجهها بشكل تلقائي لنخاع العظم - في انتاج خلايا دم مثيلة لها، تقوم (بعد عدة أسابيع من نقلها) بمُزاولة عملها بصورة مُصحَّحة وقادرة على اتخاذ شكلٍ بيضاويٍ ووظيفةٍ ذات كفاءة أفضل من السابق (في حال نجحت عملية التصحيح الوراثية ولم يحدث فيها أي خطأ تركيبي أثناء دمجها بالفيروسات الناقلة للجينات السليمة، لأنَّه أمر قابل للحدوث). إلّا أنَّ المريض أيضًا خلال فترة هذه الأسابيع الانتقالية (أي بعد حقن الخلايا الجذعية في دمه) يحتاج للكثير من الأدوية العلاجية الحامية له من الميكروبات ومن النزيف الداخلي المُهدِّد للحياة بسبب تدني مناعته وصفائحه الدموية التي ينخفض مستواها بعد تحطيم المصنع المنتج لها، وهو كامل الخلايا الجذعية المُنتِجة لكل خلايا الدم (ومن أهمها الخلايا الحمراء الناقلة للأكسجين والبيضاء المسؤولة عن المناعة والصفائح الدموية الداخلة في عملية تخثُّر الدم)، ومروره بمرحلة حرجة. هذا كله بحسب الصورة النظرية التي يتم تقديمها في حال تمكنت هذه الخلايا من الثبات على المديين القريب والبعيد. وبالمناسبة، ما تم شرحه في تقنية العلاج الجيني للمريض نفسه في الفقرة "ب"، والمتعلِّق بتنظيف نخاع العظم من الخلايا الجذعية المريضة ومروره بالفترة الانتقالية الحرجة بعد حقن الخلايا الجذعية الجديدة في دمه، واعتماده على بعض الأدوية العلاجية الحامية له من التدهور الصحي يتوافق - لحدٍ كبيرٍ - في مراحله الأخيرة مع العلاج الجيني المُعتَمِد على خلايا جذعية مأخوذة من مُتبرِّع خارجي مُطابق للمريض، كما جاء في الفقرة "أ".
وعليه (بعد سرد النقاط التقديمية الآنفة الذكر)، أقول: بأنَّنا لو تأملنا في طبيعة النتائج الأخيرة التي نشرها فريق العمل الفرنسي (الموجود في باريس) في مجلة انجلترا الحديثة لطب الباطنة في هيئة تقرير طبي (case report) سنُلاحظ بأنَّها نتائج ترتبط بالتقنية الموصوفة في الفقرة "ب" من القسم الشفائي الدائم المذكور أعلاه، أي تقنية العلاج التصحيحية لخلايا نخاع عظم المريض نفسه. حيث استهدف هذا الفريق العلاجي عند بداية تطبيقه لهذه التقنية قبل حدود سنتين مريض كان عمره 13 سنة.
وحالة هذا الطفل المُعالج من قِبَل الفريق الفرنسي هي الحالة الوحيدة التي استفادت مرحليًا من نتائج هذه التقنية من ضمن مجموعة حالات الأنيميا المنجلية التي تم التعامل معها بنفس الأسلوب في العالم حتى الآن (في إطارها المرحلي الحالي). حيث أنَّ هناك ما يُقارب السبع مرضى في أمريكا لوحدها (دون بقية الدول الأُخرى التي تسعى لمحاولة تطبيقها أيضًا)، خضعوا للعلاج بنفس التقنية المُشار لها أعلاه وبالتعاون مع نفس فريق العلاج الفرنسي إلَّا أنَّ نتائجهم لم تكن كما ينبغي حتى لحظة خط هذه السطور. بل وأنَّ الأهم من هذا وبالاعتماد على ما أشار له الباحثون أنفسهم المعنيين بهذه التقنية هي أنَّ علاج المرضى البالغين الذين يعانون من مُضاعفات المرض هو أكثر صعوبة ويتضمن الكثير من التحديات (ولا يسع المجال للتعرّض لها في هذا الشرح المُختصَر)؛ هذا للتوضيح حتى يتم استيعاب زوايا المُعوِّقَات التي تواجه هذه التقنية العلاجية.
ولقد تم مُلاحظة أنَّه بعد 15 شهر من تقديم العلاج على هذا النحو التصحيحي لخلايا نخاع دم المريض ذي الـ 13 عام، وبعدما بلغ من العمر 15 سنة، أنَّ مستوى تصحيح الخلايا المنجلية لديه قد وصل إلى حدود 50 بالمئة، وبدون ظهور أي أعراض سالبة أو أي نوبات، بل أنَّ مجمل حالته الصحية قد تحسّنت مقارنة بوضعيته السابقة. هذا طبعًا حتى وقت نشر النتائج الإكلينيكية للحالة، والمتابعة مازالت قائمة.
وبالاعتماد على ما قالته ناشرة الدراسة ورئيسة قسم العلاجات البيولوجية في مستشفى نيكر (Necker) الدكتورة مارينا كافازانا (Marina Cavazzana)، عندما سُئلت عن الطفل المُعالج على قناة "سي إن إن" (CNN) الأمريكية: "إنَّ كل الفحوص البيولوجية التي أُجريت له تقودنا لأنْ نعتقد بأنَّه شُفي"، ولكن (كما تُضيف): "إنَّ الإجابة الكاملة على هذا السؤال تتوقف على المُتابعة الطويلة المدى له، وليس على النتائج المبدئية". وفي العموم، تقول كافازانا: "إنَّ الآمال والتطلُّعات تنمو بتجاه معالجة مرضى الأنيميا المنجلية بهذا الأسلوب خلال الخمس السنوات القادمة، وهو الأمر الذي نعمل عليه بشكل جاد"؛ هذا على حد قول كافازانا.
أمَّا ما يجب التأكيد عليه (نحن أيضًا)، فهو أنَّ العلاج الجيني المُعتمد على استهداف الخلايا الجذعية في نخاع العظم يوفِّر الأمل لكل مرضى الأنيميا المنجلية بغض النظر عن وجود المتوافق معهم في عملية زراعة نخاع العظم من عدمه. لأنَّ خيار استخدام التقنية التصحيحية لخلايا المريض الجذعية نفسه ستكون في نهاية المطاف دومًا مُتاحة وقابلة للتطبيق مع كل الصعوبات والتحديات المُحيطة بها. وللإشارة، فإنَّ تقنية العلاج الجيني ستستهدف أيضًا علاج التلاسيميا، وهو المرض الوراثي الذي يؤثِّر على الهيموجلوبين ولكن من زوايا مختلفة، بل وستستهدف كذلك أمراض دم وراثية شبيهة (في حال تم التغلب على كل العقبات المُحيطة بها وتم اعتمادها نهائيًا كتقنية علاجية).
وعلى كلٍ، فإنَّ الأيام هي الفيصل، وعامل مرور الوقت سيكون أمرًا ضروريًا من أجل تقييم نجاح هذه التقنية العلاجية والتأكّد من عدم وجود أي مضاعفات جانبية ناتجة عنها؛ خصوصًا وأنَّه أثناء مرحلة التصحيح باستخدام الفيروسات فإنَّ احتمالية وقوع الخطأ أمر وارد (كما ذكرنا أعلاه)، وهو ما يعني توسيع رقعة المُشكلة المرضية بدلًا من علاجها. ولا ننسى أيضًا بأنَّ من أكبر المعوقات أمام مثل هذه العلاجات الجينية هو احتياجها لتقنيات عالية جدًا ومتخصصين في هذا المجال قادرين على فهم الغازها وخباياها (وهو ما أكّدنا عليه أثناء الشرح أيضًا)، هذا فضلًا عن تكلفتها الباهظة.
أمَّا العبارة الأخيرة التي استشهد بها في ختام حديثي هذا والتي قالها أحد روَّاد هذه التقنية العلاجية، وهو الدكتور فيليب ليبولش (Philippe Leboulch)، فهي: "لا نريد أنْ نقول بأنَّ هذه التقنية المُعقَّدة والدقيقة جدًا والباهظة الثمن هي علاج سيتم تطبيقه غدًا أو بعد غد لكل الناس الذين يعانون من الأنيميا المنجلية؛ إلَّا أنَّه يجب أنْ نلتفت إلى أنَّ ما تم تحقيقه حتى الآن من نتائج إكلينيكية مرحلية لم تكتمل بشكل نهائي بعد، لكنَّها تُعبِّد لنا الطريق نحو الوصول إلى الهدف المنشود، والتي نأمل أنْ نطبِّقها في المستقبل على كل المرضى".
ومن هُنا لا يسعني المجال إلَّا أنْ أدعو للجميع بالصحة والعافية وبخير الدُنيا والأخرة ودمتم سالمين.
روابط ذات صلة: -
- تسجيل فيديو: العلاج الجيني الجديد الخاص بالأنيما المنجلية
- ومضة طبية 15: ما هو العلاج الجيني الخاص بمرض أنيميا الدم المنجلية؟
روابط ذات صلة: -
- تسجيل فيديو: العلاج الجيني الجديد الخاص بالأنيما المنجلية
- ومضة طبية 15: ما هو العلاج الجيني الخاص بمرض أنيميا الدم المنجلية؟
0 comments:
Post a Comment