Thursday, 12 December 2013
December 12, 2013

هل من ميكروبات مجهرية في الفضاء الخارجي؟



قبل البدء، دعني- عزيزي القارئ- أعيد طرح السؤال (عنوان هذا التحقيق المختصر، لفصل من فصول كتاب أكتبه)، بصياغة مُختلفة تحمل بين طياتها مؤشرات ذوات زوايا أكثر حدة، وتمهد لما سيتم التحدث عنه فيما بعد، والسؤال هو: هل هناك ميكروبات تعيش في الفضاء الخارجي (Universe)، ولا تعيش على كوكب الأرض؟

وانطلاقًا من هذا السؤال، أرى أنه من المناسب- أيضًا- أن يتم طرح سؤال آخر متصل به، ومفاده: هل هناك ميكروبات فضائية قادرة على أن تغزو كوكب الأرض وتدمر البشرية، أو أي حياة أخرى تعيش فيها (نظراً لسميتها وعدم تعرف الأجهزة المناعية- لمختلف الكائنات الحية- عليها)؟

ولو بدأنا بالتدرج في عملية الاسترسال في طرح وتسجيل اسئلة أخرى، سنلاحظ بأن هناك الكثير من الاستفهامات الافتراضية (بمنظورها العلمي) ستنطلق من طبيعة التصور الموضوع للأبعاد التي يتميز بها عالم الأجرام الصغيرة.

ولو تأملت- عزيزي القارئ- في الأسباب التي تجعل الكثير من الكائنات الحية- كما سنُنَظِّر أنا وأنت لها، منطلقين من المسلمات العلمية- (في الجانب الأول) غير قادرة على أن تعيش في بيئة شديدة البرودة- مثلاً-، ستعرف بأنها هي نفس الأسباب التي تجعل كائنات حية أخرى (في الجانب الآخر) قادرة على أن تعيش في تلك البيئة وتستمد القوة منها وتبقى مُتعايشة معها... (عزيزي القارئ، لا ضير في تعليق هذه النقطة، ولا ضير- ايضًا- في تركها دون التمعن كثيرًا في أبعادها وخباياها العلمية- ولو مؤقتًا- لأنها تناقش الموروث الجيني وترتيبه، ومن ثم قابليته للإنتاج المُتمايز من العناصر المقاومة).

ولكني وباختصار، أردت الإشارة هنا- وبشكل عام- إلى أن المتطلبات الحيوية والعناصر "الفيزوكيميائية" المهمة لحياة بعض الكائنات والتي من شأنها- أي تلك المتطلبات والعناصر- تقديم سبل الحياة القوية والعيش المنافس للتحديات البيئية الموجودة في ذلك المحيط، هي في نفس الوقت محاذير حيوية وعناصر مميتة لحياة نوع آخر من الكائنات.


وللتوضيح (وقبل مواصلة الموضوع المرتبط بحقيقة وجود كائنات مجهرية في الفضاء!)، نذكر في هذا المجال أمثلة لبعض التحديات البيئية التي يستطيع الأنسان أن يلتمسها كمخاطر حقيقية (قد تهدد حياته ككائن من مجموعة تلك الكائنات). وتشمل هذه الأمثلة: الإشعاعات الكونية، والتركيز العالي لبعض الغازات السامة، وغير ذلك من أسباب تظهر على أنها كارثية ومميتة للجنس البشري.

وعليه (وبعد سرد النقاط التمهيدية السابقة)، نستطيع أن نذكر هنا المثال الآخر (والذي أعده محورًا رئيسًا في هذا التحقيق، ومتعلقًا بعلم ما لا نراه بالعين المجردة)، وهو الجرثومة البكتيرية التي تسمى "هالوبكتيريوم" (Halobacterium). وبهذا المثال بدأنا ندخل في صلب الموضوع.

حيث تعيش هذه البكتيريا في البحر الميت وتستمد القوة- فيه- من ارتفاع معدل الملوحة (والذي يصل إلى ما يعادل خمسة إلى عشرة أضعاف الملوحة الموجودة في مياه البحار الأخرى). ليس هذا فحسب، بل وتعيش سلالات من هذه البكتيريا- أيضًا- في أعماق، المحيطات، وتستمد القوة- في تلك الأعماق المظلمة- من الضغط العالي جدًا مقارنة بما هو موجود فوق سطح البحر.


إن تلك البيئة التي تتمتع بتركيز ملحي مرتفع (كالبحر الميت)، أو بضغط عالي (كأعماق المحيطات)، تجعل من إمكانية الحياة فيها- لمعظم الكائنات الحية الأخرى التي نعرفها (نحن بني البشر)- شبه مستحيلة.

بل ونلاحظ أن الـ "هالوبكتيريوم"- وبكل ما تملكه من قوة في المياه المالحة- تضعف حينما يتم تعريضها لوسط فيه التركيز الملحي قليل، أو ضغط منخفض يتناسب مع الحياة الاعتيادية لبقية الكائنات!، حيث تصبح فيه الكثير من بروتيناتها غير قادرة على العمل.


وانطلاقًا من الـ "هالوبكتيريوم" (والتي سندور في فلكها المجهري)، فإن العلماء تطلق العنان في تفكيرها إلى تصور امكانية ايجاد سبل للحياة خارج نطاق ما هو اعتيادي (من ظروف بيئية)؛ حيث يصل بها التفكير إلى ما هو أبعد من مجرد التعرض لتركيز ملحي عالي أو ضغط مرتفع، لتصل إلى حدود الإشعاعات الكونية (والتي قد تدمر المحتوى الجيني للكائنات الحية، خصوصاً الميكروبات).

إن الدراسات التي تجريها جامعة ماريلاند الأمريكية (بتمويل من "ناسا" وبتعاون من مؤسسة الأنظمة البيولوجية في مدينة سياتل) على الـ "هالوبكتيريوم" أشارت إلى أن تلك النوعية من الميكروبات لها القدرة على إصلاح حمضها النووي (DNA) أو الموروث الجيني- بطريقة هندسية بارعة- عند تعرضها لظروف بيئية قاسية ومدمرة لكائنات أخرى؛ حيث أنها كانت (وكما قال رئيس الفريق العلمي "أدريات كيش" من جامعة "ماريلاند") في كل مرة تخضع لظروف قاتلة (والتي من ضمنها تعريضها للأشعة فوق البنفسجية والجفاف وانعدام الجاذبية)، تعاود ترتيب حمضها النووي بالطريقة التي كانت عليها عندما نشأت؛ علما بأن بقية الأنواع البكتيرية التي كانت تخضع لنفس التجربة تموت وتتغير معالمها تماماً.

لقد أدهشت هذه النوعية من البكتيريا خيال الباحثين، وجعلتهم يسألون: عن إمكانية مقاومتها للظروف المعقدة في الفضاء الخارجي؟

وتقول الباحثة "جوسلين ديورجيرو" (من نفس الفريق البحثي المذكور) بأن الـ "هالوبكتيريوم" تفرز إنزيمات اصلاحية للحمض النووي في سلسلة جيناتها، تسمى أدوات الإصلاح الجزيئية (molecular repair tools)، قادرة على تعديل موروثها الجيني متى ما أصيب بأي ضرر.


ومن هنا بدأ العلماء يسألون: هل بالإمكان الاستفادة من هذه البكتيريا في إيجاد نظام مُشابه يعمل بنفس الكفاءة عند الإنسان (أي يقوم بالتعديل التلقائي عند حدوث العطب في حال كان هناك تعرض لتلوث بيئي، أو للشيخوخة مثلاً)؟


والسؤال أعلاه خارج نطاق تحمل البُعد الذي يناقشه هذا التحقيق (حيث أنه يحتاج لفصل كامل من البحث والتدقيق والبيانات الموثقة والحوار العلمي الجاد في ترابطه المعرفي)، ولكنه سؤال يُطرح بطريقة بحثية احترافية (كفرضية مبدئية!) تجعل من العلماء يبحرون من خلالها بأفكارهم التنظيرية (مبدئيًا) إلى ما هو أبعد من النظام الموجود في ميكروب الـ "هالوبكتيريوم".

وللتأكيد فقط، يجب علينا أن لا نغفل ونتذكر أيضًا، بأن أصل العلوم المطبقة في عصرنا الحالي كانت في الأساس أفكار فرضية ومجموعة من النظريات؛ بل أن بداياتها ظهرت (في نظر البعض، إذا لم يكن في نظر الأغلبية!) كمجرد تصورات خيالية.

من ما تقدم، تم طرح سؤال آخر (مشابه لسابقه في الطرح، مُغايرًا له في الظروف): كيف يتم الاستفادة من تلك الأدوات الإصلاحية الجزيئية عند غزو الفضاء؟

وهل بمقدور الطب الاستفادة منها في منع الأمراض السرطانية (مثلاً، لا حصرًا)؟

يجدر بنا القول هنا ايضًا، إن من الأمور المهمة والتي يجب أن ألفت الانتباه لها (وأنا أنتقل معك- عزيزي القارئ- في خبايا هذا العلم المجهري كمتخصص في علوم الهندسة الجينية)، هو أنه قد تم الحصول على الـ "هالوبكتيريوم" في ترسبات ملحية يعود عمرها إلى قرابة 250 مليون سنة (وهي تقارير يصفها العلماء في نقاشهم بـ"الجدلية"- وهو تعبير راقي في أوساط البحوث العلمية-).

فإذا صح هذا! فإنه سيشجع العلماء على البحث بجدية عن حياة في الفضاء، خصوصاً أن الدراسات العلمية التي قامت بها المركبتين "سبريت" (Sprit) و"اوبورتشينيتي" (Opportunity) على سطح المريخ قد كشفت عن وجود بحيرات ملحية يعود عمرها لعشرات ملايين السنين، وهو ما يثير تساؤلات العلماء حول احتمال وجود ميكروبات مماثلة لـ "هالوبكتيريوم" تعيش على كوكب المريخ (أو حتى على كوكب آخر).

عزيزي القارئ، لم ننتهي- أنا وأنت- بعد!... ولكننا بدأنا... وقد تكون لنا عودة في المستقبل، نفتح فيها بوابةً أخرى، ولكن من بعد آخر! ... نطل بها على هذا العالم المجهري، والذي حار العلماء في تفكيك معالمه الغامضة.

0 comments:

Post a Comment