Thursday, 23 January 2014
January 23, 2014

من مذكراتي: وحدثني عن منطقة بين عشتاروت وكيتوس



انطلاقًا من مذكرتي السابقة التي كانت بعنوان: "حرب الإنسان على الطبيعة – من المنتصر فيها؟" (وأحسب أننا نتقدم في عملية بناء المعلومة وفهمنا للواقع المُحيط بنا)، سأخبرك بشيء ذي صلة بفحوى تلك المُذكرة بل ويحاكي همومها، ولكنه يناقشها من بُعد جديد اسمه: "ترابط العلوم بعضها ببعض وعدم انفكاكها، عندما تتداخل في رسمها للطبيعة!".

وسأبدأ مذكرتي هذه بحديث دار بيني وبين أحد الأصدقاء؛ حديث عمره أكثر من عقدين من الزمن!

يقول أحد الأصدقاء (وهو قطري الجنسية) من الذين التقيتهم في مدينة "برايتون" (وهي مدينة تطلّ على الساحل الجنوبي للملكة المتحدة البريطانية، ومعروفة بشاطئها ذي الأمواج العاتية) قبل أكثر من عشرين عاماً، بأن أباه قال له- أثناء قضائه لإحدى إجازات الصيف مع أهله في قطر- (خصوصًا حينما أخبر أباه بأنه يعرفني، وأني من أبناء مدينة القطيف): بأنه يعرف القطيف جيّدًا، وبأنهم كانوا يذهبون في زمن مضى بواسطة "اللنج" (القوارب الشراعية) إلى القطيف!

وأخبرني مسترسلًا، بجدّيته المعتادة ومازحًا معي في آنٍ واحد: بأن أباه قد أخبره- أيضًا- بأنهم كانوا يمرّون على منطقة معروفة عند غوّاصي وصيادي الخليج مليئة بمسطحات خضراء يتعارف عليها اليوم مجازًا بأشجار "المنجروف"، (وهو الأسم الذي سنستخدمه في هذه المذكرة، وتعرف بعض فصائل هذه النباتات لدى الأباء والأجداد بشجيرات "الأسل" أو "الشورى")، كان يحلّق فوق سمائها الطيور البحرية (وما فهمته منه بأنه كان يعني في ذلك طيور النورس صغيرة الحجم وخليجية المنشأ، التي بدأت تنقرض من شواطئنا ورحلت مودّعة احتجاجًا على واقعنا الحالي لأنها لم تعد قادرة على التعايش معه).

ولأنني ذكرت تلك الطيور البحرية- والشيء بالشيء يُذكر-، أنقلك بعيدًا عن قصة صديقي القطري (في فقرة قصيرة، وفي خاطرة استحوذت على ذهني وأنا أكتب هذه المُذكرة، لأواصل بعدها ما كان يرويه صديقي القطري لي، وتقليبه للمواجع من حيث لا يدري): "في شباط من العام 2006 للميلاد، وفي زيارة بحثية لمدينة "سان بطرس برغ" الروسية (التي كانت توصف خلال عقود الحرب الباردة- نظرًا لجمالها- بـ: "جوهرة في يد رجل فقير"، حيث تمتاز بأنهارها المتفرعة وجسورها المعلقة وكنائسها المطلية بالذهب من كلّ حدب وصوب)، مسك بيدي أحد الزملاء هناك ليريني من شرفة المستشفى بعض طيور النورس (مُعتقدًا بأنها طيور تعيش في نصف العالم الغربي فقط) ... فقلت له (موثقًا للتاريخ): بأن سلالات من هذه الطيور البحرية موجودة على شواطئنا!، فأبدى استغرابه من تواجد مثل هذه الطيور في إحدى مناطق الخليج (ولو كنت أدري بأنها قد انقرضت، لسكتّ، وتجرعتها مُرةً كما تجرعت الكثير مما سمعت)".

وعودًا على بدء، واستكمالًا لما كان ينقله لي صديقي القطري، الذي قال لي أيضًا: بأن أباه قد أخبره، بأن تلك المنطقة تقع بين القطيف وجزيرة تاروت، وهي من أخصب المناطق لتكاثر القشريات (ومن أهمها الربيان)؛ بسبب طبيعة تربتها الطينية التي لا يوجد لها مثيل في الخليج (وهذا نقلًا عن أبيه!).

يُضيف صاحبي القطري بأن أباه قد أخبره أيضًا: بأن فائض مياه النخيل يصبّ في تلك المنطقة، وأنهم شاهدوا الناس يمرّون بها من تاروت إلى القطيف (ذهابًا وإيابًا) بواسطة الحيوانات الناقلة للبضائع.

ومن بعدها، قال لي صديقي (وهو جادّ في كلامه) بأنه: متشوق لرؤية تلك المنطقة.

أكتفي بهذا القدر الذي أنقله لك حرفيًا كما قيل لي (دون زيادة أو نقصان) ونقلًا عن صديقي الذي أخبرني به نقلًا عن أبيه، دون أن يدري بالجرح الذي نبشه في داخلي ولا حتى بالإحراج الذي سبّبه لي حينما وجّه لي سؤاله الأخير المتعلق بشوقه لرؤية تلك المنطقة الساحرة بجمالها، وكما وصفها له أبوه!

عزيزي القارئ، لقد حان الوقت للتعليق على بعض الأمور ...

إنّ ما قاله صديقي لي لم تكن مجرد: أتربة بحرية متناثرة ذات اليمين وذات الشمال على شواطئ القطيف وتاروت، أو شجرة اسمها "المنجروف"، أو طيور تحلّق في سماء ذلك المسطح البحري، أو أسماك أو رخويات أو صدفيات أو قشريات كانت تعيش وتتكاثر في طينة وصخور وحفر تلك المنطقة التي رسمتها الطبيعة، وأنتجت منها لوحة فنية ساحرة؛ بل ولم تكن مجرّد مياه فائضة كانت تأتي من سقي أشجار النخيل، ولم ... ولم ... ولم...!

عزيزي القارئ، كمتخصّص في مجال حيوي، ومن واقع اطّلاعي ومعرفتي باليسير جدًّا بالعلوم الحيوية، ومن واقع دراساتي وطبيعة اهتماماتي بتداخل المسارات المختلفة في هذا المجال، أستطيع أن أقول لك بأننا حينما نردم شجرة صغيرة قد نمت في طينة البحر الطبيعية (أو حتى في اليابسة) فنحن نكسر حلقة من سلسة طويلة، تُسمى في علوم الأحياء بالنظام البيئي المُتكامل (كما أشرنا له من بُعد مُختلف في مُذكرة سابقة)، الذي يجمع بين طيّاته الكثير من المفردات الحية وغير الحية التي يعتمد كلّ واحد منها على الآخر، حيث تمرّ تلك الحياة بنظام تكافلي يضمن استمرار وبقاء الدورة الطبيعية لتلك البيئة المُتداخلة.

بل ويتعدّى تكامل هذا النظام إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يتداخل مع الفيزياء والكيمياء الكونية، وفي أقل التقديرات- نتحفّظ ونقول- المناطقية ذات البعدين: المناخي والجغرافي. 

فتلاحظ- على سبيل المثال لا الحصر- أن درجة الحرارة، ومستوى الضغط الجوّي، وكمية الغبار المنتقل من منطقة لأخرى تبدأ بالتذبذب، وتتغير حينما يتأثر النظام البيئي، حيث تقف الأشجار (كمثال لمفردات الكيان الحيوي بالحفاظ على الدورة البيئية) حائلًا تجاه ذلك وتؤثر فيه (وهذا ما قصدته بتداخل الفيزياء والكيمياء في حيوية هذا النظام).

بل إنّ تركيز بعض الغازات ومن ضمنها الأكسجين وثاني أكسيد الكربون- كمثال آخر- يبدأ بالانحراف في معاييره (صعودًا وهبوطًا) أيضًا حينما تتأثر دورة ذلك النظام (نظرًا لعملية التنفس العكسية التبادلية بين الحيوان والنبات)، فضلًا عن أن تركيز بعض الغازات الضارّة لبعض الكائنات الحية في ذلك النظام (ومن ضمنها الإنسان) تبدأ في الزيادة- طرديًا-، نظرًا لغياب المُستهلك الطبيعي لها الذي لا يتضرّر بها، إن لم يكن يحتاجها فعلاً ليبقى حيًّا، كتغذيته على المركبات الكبريتية والنيتروجينية وما شابه.

ومن هنا يستفيد كلّ واحد (من تلك المخلوقات) من الآخر، وعلى اختلاف انتمائها في التصنيف العام في علوم الممالك الحياتية.

عزيزي القارئ، وفي إجابة منّي أطرحها متأخرة وبعد مرور كلّ هذه الأعوام- المليئة بالأحداث الجسام على بيئة تلك المنطقة- منذ أن دار ذلك الحديث بيني وبين صديقي، أقول:

إننا نفهم جميعًا بأن تلك الحياة التي قصدها بحّارو وغواصو الخليج العربي على اختلاف مشاربهم، قد نتج من طبيعة الغذاء بأشكاله المُختلفة: الصلبة والسائلة والغازية منها، التي تعتمد عليها تلك الكائنات البحرية في تلك المنطقة من الخليج، والتي تأتي من طبيعة التداخل مع بقية الحياة الأخرى.

وللتوضيح، فإنّ غنى ذلك المسطح المائي بأشجار "المنجروف"- على سبيل المثال لا الحصر-، التي تُعدّ فيه شجرةً مجرّدةً مفردةً واحدةً (لكنها أساسية ولا يُستغنى عنها) من مجموعة ضخمة من المفردات البيئية الداخلة في تكوين ذلك النظام، مُضافًا لها تداخل تلك المنطقة في رسمها بعلوم حيوية أخرى (منها الفيزيائية والكيميائية والجيولوجية وغيرها من علوم دقيقة)، حيث تلعب تلك المفاهيم دورًا كبيرًا في طبيعة وتوازن درجة الحرارة والضغط الجوي وتحرّك الهواء (خلال الفصول الأربعة)، بل وتغوص في أعماق تلك البقعة المائية لتوزان نسبة الأملاح وبقية المعادن فيها، ومن ثم تحلّق في أجوائها- الرطبة بشكل عام- لتتحكم في تركيز عناصر الهواء الغازية المنتشرة في مُحيطها (كاليود وما شابه من مواد ومركبات مُتداخلة)، ومن ثم تستفيد من امتزاج التربة الزراعية بطينة البحر المغمورة بماء الخليج، بل وتتغنّى بعذوبة فائض الماء القادم مما يحيط بها من واحة غناء.

عزيزي القارئ، لكي أتمكن من سرد بقية المفردات التي جعلت من تلك المنطقة مميزة- وكما رآها والد صاحبي القطري وغيره من سكان الخليج- سيَنْفُدُ مداد قلمي ولما أنْتَهِ بعد من توثيقها!

إن الذي ذكرته، مُضافًا له الكثير مما غاب عن ذهني، قد رسم لوحةً جمليهً اسمها: "ما بين عشتاروت وكيتوس".

وفي عملية انتقالية- تقدمًا- عبر الزمن (من الوقت الذي حدّثني فيه صديقي- القطري- إلى التاسع من أيلول للعام 2008 للميلاد)، حيث شاءت الأقدار- في تلك الحقبة الزمنية- أن أشارك في مؤتمر في "كينز" الأسترالية (وهي مدينة تطلّ على الشعب المرجانية العظيمة في الساحل الشرقي لأستراليا، وأعدّها من أجمل المدن البحرية التي تقع على امتداد خط الاستواء). حيث قرّرت- بعد انتهائي مما كنت بصدده هناك- أن أزور جزيرة في وسط المحيط تسمّى بالجزيرة الخضراء (Green-island)، التي كان يتطلب الوصول إليها زمن ساعتين تقريباً بـ"اليخت" السريع.

ومع وصولنا إلى مشارف تلك الجزيرة (التي أصبحت- حينها- تبعد عنّا مئات الأمتار تقريباً)، بدأ اليخت يسير مساراً دائرياً حول الجزيرة، بسرعة تتفاوت مدّاً وجزراً، مُتعرّجًا في مساره، حيث استغرقت العملية نصف ساعة تقريباً.

ولم أقتنع- وأنا أرى الجزيرة أمامي وعلى مرمى مباشر من ناظريّ- بما كان يفعله سائق اليخت.

وبعد وصولنا إلى تلك الجزيرة التي حباها الله بجمال ساحر وطبيعة خلابة، سألت سائق اليخت عن أسباب إطالته للمسافة، خصوصًا بعد اقترابنا من الجزيرة؟

فكان جوابه: إنّ تلك المنطقة مليئة بالشعب المرجانية، وتُعتبر محمية بحرية، وإنّ عمر تلك الشعب التي تعيش فيها يصل إلى آلاف السنين (على حدّ وصفه)! وأنها تنمو بمعدل واحد إلى اثنين "سنتيميتر" سنويًا.

وعليه، فإنه لا بُدّ وأن يقوم بذلك الإجراء (كما قال لي)؛ من أجل الحفاظ على تلك الحياة الموجودة في وسط المحيط.

هنا (وكما اعتدنا عند سرد هذه النوعية من المذكرات)، أترك المقارنة والحكم لك، عزيزي القارئ...

وأخيرًا وليس آخراً، لم يتبقَّ إلا أن أفصح لك عمّا يجيش به صدري من تصوّر لجشع الإنسان المادي: أعتقد (وقد أكون مُخطئاً) بأن المتسبّب فيما يحدث لشواطئنا (وكما يقول المثل الإنجليزي الشائع- بعلم أو غير علم- وبترجمته الحرفية): "بدأ يُصوّب رصاصًا حيًّا على رجله".

لأن النظام البيئي المُتكامل- على اختلاف موقعه الجغرافي- الذي وصفناه بالسلسلة المُتداخلة من الحياة المُعقدة (التي لا ينفصل عن نظامها الحيوي البيولوجي، لا علم الكيمياء ولا علم الفيزياء)، والتي إذا تأثرت بعض حلقاتها تفككت بقية السلسلة فيها، هو نظام مرتبط (بل ويُهدّد بشكل مباشر) حياة الإنسان المادية والمعنوية.

بل ويُعدّ الإنسان في تلك السلسلة مجرّد حلقة هشّة وحسّاسة لأيّ تغير في ذلك النظام البيئي، وما يقوم به-ذلك الإنسان- هو جرأة في غير محلّها، على نظامه البيئي الذي حماه لآلاف السنين (متوقعًا بأنه سينتفخ ويقوى في تلك الدورة الحيوية المعقدة)!.

فإنْ كان ذلك الإنسان يدري فتلك مصيبة، وإن كان لا يدري فالمصيبة أعظم.

عزيزي القارئ، نلتقي في المستقبل القريب لنفتح مذكرة أخرى (أخبرك فيها عن موضوع آخر).

رسم من الماضي 1: حفلة وداع لأشجار "المانجروف".
رسم من الماضي 2: تعانق البحر مع النخيل (في صورة أصبحت من التراث الماضي).
صورة رقم 3: صمود الجزيرة الخضراء الأسترالية في بحر المرجان (coral sea) لمئات السنين (التقطت الصورة قبل خمسين عاماً تقريباً). 
صورة رقم 4: الجزيرة الخضراء الأسترالية (مرة أخرى) في بحر المرجان (coral sea) في وقتنا الحالي، (وعلى العكس، فالمنطقة البحرية حولها تزداد جمالاً؛ نظرًا للزيادة الطردية في نمو الشعب المرجانية فيها)، علمًا بأن السائحين يتدفقون عليها في الغدوّ والآصال.
صورة رقم 5: جزء بسيط من مسطحات "المنجروف" على سواحل منطقة القطيف قبل بضع عشرات من السنين.
صورة رقم 6: عملية الردم المستمر لمسطحات "المنجروف"! وللقارئ العزيز، تعليقه الخاصّ.
صورة رقم 7: هكذا تظهر مناطق "المنجروف" (إحدى جهات المنطقة المأخوذة في الصورة رقم 4) في وقتنا الحالي (فهل هذا هو ما يُريد صديقي رؤيته بين القطيف وتاروت، وكما حدثه أبوه!)، فحينما تدمع العين يعجز اللسان عن الكلام... ولا تعليق.

0 comments:

Post a Comment