قبل الشروع في الإجابة على السؤال (عنوان هذا الجزء)، والذي يناقش محورًا متقدمًا- بل ومهمًا- من هذا التحقيق، ألا وهو: إحتمالية إنتقال الورم السرطان الخبيث من موقعه الأولي- عند حدوث التمحور والتغير في نمو وإنقسام الخلايا- إلى نسيج آخر قد يكون قريبًا وقد يكون بعيدًا؛ يجدر بنا أن نؤكد- أولًا- على أن أكثر ما يقلق المطلعين والباحثين في علوم الهندسة الجينية للخلايا المتحورة والمشوهة خلقيًا والمتغيرة وظيفيًا، ويقلق الفرق الطبية المعالجة- عند الإصابة بالسرطان في أي نسيج من أنسجة الجسم- هو متابعة وفحص الأنسجة المرتبطة بالنسيج المصاب، خوفًا من وصول الخلايا السرطانية إليها في مرحلة متقدمة من مراحل المرض.
وعادة ما يقوم الباحثون والمعالجون بربط، بل وتوقع إصابة أنسجة محددة عند حدوث تسرطن خلايا نسيجية معينة في موقع ما من موقع جسم الأنسان المعقد؛ وسنفهم هذا الأمر خلال شرح هذا الموضوع في الفقرات القادمة من هذا الجزء.
ويبقى السؤال المطروح هنا: عن الأسس البيولوجية التي على قاعدتها يتم فهم كيفية حدوث هذا الإنتقال السرطاني وغزوه لمواقع نسيجية أخرى؟
ومن أجل توضيح الصورة وتسهيلها- لك عزيزي القارئ-، سأصيغ بعض من عناوين ونقاط هذا الجزء في هيئة أسئلة نجيب عليها بطريقة تدريجية.
لقد فهمنا في الجزء السابق التقسيمات والتفرعات العامة لمصطلح "تنشؤ" بشقيه الورمي الصلب والخلوي غير الصلب (وإن كانت هذه المصطلحات مصطلحات مجازية لطبيعة التوصيف الشكلي للمرض)؛ وفهمنا أن الـ "تنشؤ" فيما يتعلق بإحتمالية إنتقاله من مكان لآخر (وهو المحور المرتبط بهذا الجزء) ينقسم لخبيث وحميد؛ وفهمنا- أيضًا- أن عبارة "ورم" تُشير- في العادة- للتغيرات الخلوية الصلبة والتي قد تكون حميدة أو خبيثة؛ ولقد تعرضنا- أيضًا- لغيرها من مصطلحات تشخيصية متعلقة بطبيعة التغير الخلوي.
إلا إننا في هذا الجزء- ومن أجل تسهيل التعامل مع مادة هذا الموضوع، سنبدأ باستخدام عبارة "سرطان" (cancer) كمصطلح عام يُقصد به الـ " تنشؤ" الخبيث بنوعيه الصلب وغير الصلب (وكما هو معروف مجازيًا من قبل الناس!). وفي حال كان هناك إستثناء أو قصد إصطلاحي آخر يُراد منه الدقة في توصيف فرع محدد من فروع هذا المرض أثناء الشرح، فإننا سنشير إليه باسمه الدقيق- الموضوع على شجرة التقسيم، والذي تعرضنا له في الجزء السابق- حتى تتضح الرؤية.
أولًا، ما هو السرطان المنتقل؟
لقد وضحت مجموعة من المراجع الطبية طريقة إنتقال السرطان، ومن أمثلتها ما ذُكر في الفصل الثامن من النسخة الخامسة من كتاب "طب سرطان هولاند-فيري" (Holland-Frei Cancer Medicine. 5th edition) والذي كان بعنوان "الغزو والإنتقال" (Invasion and Metastases) للمؤلفان "لانس ليوتا" و "إليس كون" (Lance A Liotta, and Elise C Kohn)، وما جاء في كتاب "الموسوعة الشاملة في علم السرطانات" بمجلديه الأول والثاني (The Gale encyclopedia of cancer vol. 1 & 2) للمؤلف "الن ثاكري" (Ellen Thackery)؛ وأيضًا، ما جاء من صياغة توضيحية للمؤلف"انندريز موريتز" (Andreas Moritz) في كتاب (Cancer Is Not A Disease - It's A Survival Mechanism)، وما ذكره "جيكيترينا إيرنبريزا" (Jekaterina Erenpreisa) و"م. س. كراج" (M. S. Cragg) والذين ناقشوا ذلك في مراجعتهم لعام 2001م (Mitotic death: a mechanism of survival? A review)؛ حيث جاءت خلاصة الإجابة على السؤال أعلاه من تلك المراجع: بأن السرطان المنتقل (Metastatic cancer) هو ذلك السرطان الذي إنتقل من المنطقة الذي بدأ فيها بشكل أولي إلى منطقة أخرى من مناطق الجسم. وحينما تنفصل الخلايا السرطانية من الورم السرطاني بهيئته الصلبة، فإنها تستطيع أن تنتقل إلى الأجزاء الأخرى من الجسم، إما عن طريق الجهاز الدوري الدموي معتمدةً على جريان الدم فيه، أو منتقلةً بواسطة سائل اللمف الذي يتدفق في أوعيةً الجهاز اللمفاوي.
نقطة هامشية تعريفية للجهاز اللمفاوي: الجهاز اللمفاوي- بشكل عام- هو عبارة عن مجموعة من الأوعية الصغيرة تنتشر في أنحاء الجسم المختلفة؛ ويحمل الجهاز اللمفاوي في أوعيته سائل اللمف (المشار له سالفًا)، والذي فيه تغوص خلايا مناعية؛ وللجهاز اللمفاوي مجموعة من العقد اللمفاوية تتوزع وتنتشر على مناطق مختلفة من الجهاز نفسه، وفي مناطق معروفة من جسم الأنسان. ومن أجل التوضيح، نقول: بأن العقد اللمفاوية عبارة عن تكتلات صغيرة على شكل حبات الفاصوليا تتجمع بداخلها الخلايا المناعية القادمة مع سائل اللمف. إذا، فالجهاز اللمفاوي- في حقيقة الأمر- هو جهاز يلعب دوراً مناعيًا مهمًا في جسم الأنسان.
نقطة هامشية تعريفية للجهاز اللمفاوي: الجهاز اللمفاوي- بشكل عام- هو عبارة عن مجموعة من الأوعية الصغيرة تنتشر في أنحاء الجسم المختلفة؛ ويحمل الجهاز اللمفاوي في أوعيته سائل اللمف (المشار له سالفًا)، والذي فيه تغوص خلايا مناعية؛ وللجهاز اللمفاوي مجموعة من العقد اللمفاوية تتوزع وتنتشر على مناطق مختلفة من الجهاز نفسه، وفي مناطق معروفة من جسم الأنسان. ومن أجل التوضيح، نقول: بأن العقد اللمفاوية عبارة عن تكتلات صغيرة على شكل حبات الفاصوليا تتجمع بداخلها الخلايا المناعية القادمة مع سائل اللمف. إذا، فالجهاز اللمفاوي- في حقيقة الأمر- هو جهاز يلعب دوراً مناعيًا مهمًا في جسم الأنسان.
مقطع من جسم الأنسان يوضح بعض من تفرعات الجهاز اللمفاوي. |
وحينما تنتقل الخلايا المنفصلة من السرطان الأولي- أي موقع الإصابة الحقيقي الذي بدأت فيه- بواسطة سائل اللمف المتدفق في الأوعية اللمفاوية، فإنها قد تنتهي في عقد لمفاوية قريبة، أو أنها قد تنتقل لأنسجة عضوية أخرى متصلة بالجهاز اللمفاوي.
أما حينما تنتقل الخلايا المنفصلة من السرطان الأولي عن طريق الجهاز الدوري الدموي، فإنها تستطيع في هذه الحالة أن تصل إلى أي نسيج عضوي من أنسجة الجسم، والموجودة في أي موقع من مواقع الجسم المختلفة، أياً كان تعقيدها وبعدها عن موقع الإصابة الأولي.
توضيح لكيفية إنفصال بعض الخلايا السرطانية من موقعها الأولي وإنتشارها في الأوعية الدموية. |
يجدر بنا أن نذكر هنا، أن الخلايا السرطانية المنفصلة من منطقة الإصابة الأولية، تنتقل- في العادة - بنسبة أكبر عن طريق الجهاز الدوري الدموي. أما النقطة الأخرى التي نضيفها أيضًا، وهي: أنه أثناء عملية الإنتقال، فإن الكثير من الخلايا السرطانية تموت؛ إلا أن بعضها قد تقاوم متحديةً الظروف المحيطة بها، باحثةً عن فرص للحياة، ومواصلةً رحلتها حتى تصل لأنسجة جديدة- موجودة على خط سيرها- تلائم طبيعتها السرطانية، ومن ثم تبدأ بالاستيطان والنمو فيها، حيث تقوم بعد أن تثبت جذورها في تلك المنطقة النسيجية الجديدة بتشكيل ورم جديد.
إن ما شرحناه في الفقرات السابقة- من عملية انتقال لتلك الخلايا السرطانية- يسمى في علوم الطب بـ "السرطان المنتقل" (metastatic cancer).
ثانيًا، ما هي الشروط الواجب توفرها حتى يتمكن الورم السرطاني من الإنتقال من موقعها الأولي إلى موقع نسيجي آخر في جسم الأنسان؟
وحتى تتم عملية إنتقال الخلايا السرطانية إلى أعضاء أخرى من الموضع الأولي للإصابة، فإن الخلايا السرطانية تمر بمراحل مختلفة من التغيرات المهمة التي يجب عليها أن تجتازها.
وكما أشارت له مجموعة كبيرة من المراجع، والتي من ضمنها المؤلفات المذكورة سالفًا، خصوصًا ما جاء في الفصل الثامن من الكتاب المذكور أعلاه، وهو طب سرطان "هولاند فيري" (Holland-Frei Cancer Medicine. 5th edition) للمؤلفان "لانس ليوتا" و "إليس كون" (Lance A Liotta, and Elise C Kohn)، مُضاف لذلك التوضيح الذي جاء في كتاب "البيولوجيا الحيوية للسرطانات البشرية" (Molecular Biology Of Human Cancers) للمؤلف "وولفجانج ارثر سشولز" (Wolfgang Arthur Schulz)، فإننا نستطيع أن نُصيغ المراحل- التي تمر بها الخلايا السرطانية حتى تصل لنسيج آخر- في ثلاثة عناوين رئيسة، وهي: -
- أولًا، أن تكون- أولًا- قادرةً على الانفصال من الورم الأولي والدخول إلى مجرى الدم أو إلى مجرى الجهاز اللمفاوي، واللذان يعطيها فرصة التحرك- عبر أوعيتها- إلى مناطق أخرى من جسم الأنسان؛ وعليه، فإن الورم المغلف بكيس- يمنع إنفصال خلاياه السرطانية منه- يسمى ورمًا حميدًا، بسبب عجزه عن تحقيق شرط الإنفصال؛
- ثانيًا، أن تكون قادرةً أيضًا على الإلتحام بجدار الأوعية الدموية أو اللمفاوية- بعد إنفصالها وخلال مراحل معينة من مراحل الإنتقال-، حيث تبدأ ومن خلال عملية الإلتصاق بجدران الأوعية (في أيِ من الجهازين) بالتحرك بطريقة تدريجية، لتصل بعدها للنسيج العضوي الجديد؛
- ثالثًا، أن تكون قادرةً على النمو والمقاومة في النسيج الجديد لتتمكن من التجذر وأخذ موقعها الورمي السرطاني؛
- رابعًا، وعلى كل حال، فإنه وخلال مرورها بكل مرحلة من تلك المراحل الثلاث السالفة الذكر، فإن الخلايا السرطانية يتبقى عليها: أن تكون- أيضًا- قادرةً على المراوغة وتجنب الهجوم المعاكس لنموها، والقادم من الجهاز المناعي الطبيعي في الجسم، والذي لا يتوقف عن شن حربه عليها ومتى ما شعر بأنها موجودة، لأن خلايا الذاكرة المناعية تصنفها على أنها خلايا غريبة ولا تقبل بوجودها.
وأما بعد المرور من خلال كل هذه المراحل فإن هذا لا يعني أن الخلايا السرطانية التي بدأت ورمًا جديدًا ستكون مماثلة- تمامًا- لتلك الموجودة في الموقع الأولي (أي مصدر انطلاقتها الأولى والمنفصلة منه). وعليه، فإنه وعند قيام الخلايا السرطانية بتحقيق شرط الإنفصال ومن ثم الإنتقال وبعدها غزو أنسجة ومناطق عضوية جديدة، فإن خطة العلاج والبرامج المتبعة للتخلص من تلك الخلايا ستختلف وستكون أكثر تعقيدًا.
نقطة توضيحية، مهمة، وهي: أنه - وحتى - عندما ينتشر السرطان لنسيج حيوي جديد، فإن التسمية تبقى ملتصقة بإسم المنطقة التي بدأت فيها وأنتقلت منها. الشيء الآخر، وهو: حتى فيما يتعلق بخطة العلاج، فسوف تعتمد- بشكل عام ورئيس- على الخلايا النسيجية التي أُصيبت في بداية الأمر بالسرطان.
فعلى سبيل المثال، فحينما ينتقل سرطان البروستات عند الرجال إلى العظام، فإن تسميته تبقى كما هي، سرطان البروستات (ولا تسمى سرطان العظام!). وبمعنى آخر، فإنها تُسمى بسرطان البروستات الذي إنتقل للعظام. وفي الغالب، فإن الأطباء المعنيين في هذا المجال قد يتوجهون لإستخدام خطط وبرامج علاجية قد أثبتت فعاليتها- في الأساس وبالدرجة الأولى- ضد سرطان البروستات المنتقل.
وبالمثل، فسرطان الثدي عند النساء والذي إنتقل إلى الرئة، تبقى تسميته بسرطان الثدي، وليس بسرطان الرئة؛ ويُعالج- أيضًا- ببرامج علاجية تستهدف سرطان الثدي المنتقل لأنسجة مجاورة.
وفي بعض الأوقات يكون الورم السرطاني المنتقل قد بدأ في النمو في أماكن جديدة، فقط بعد إكتشاف وجوده وتشخصيه في مكانه الأولي. وفي أحوال أخرى، يكون إكتشاف السرطان المنتقل قبل إكتشاف الورم السرطاني الأولي، إلا أن لغز هذه الأحجية المتعلقة بمصدرها الأولي قد تحل من قبل المتخصصين.
وحينما يكون الورم السرطاني قد إنتشر إلى أماكن أخرى قبل إكتشافه وتشخيصه، فإن تحديد إنطلاقته النسيجية الأولى تكون صعبة بل ومعقدة للغاية؛ وفي هذه الحالة، يطلق عليه "الورم السرطاني مجهول الانطلاقة الأولية" (cancer of unknown primary).
إن ما ذكرناه في الفقرات السابقة من نقاش لموضوع الإنتقال السرطاني يحتاج- وبكل تأكيد- لمحور منفصل، في حال أردنا أن نناقش كل زواياه، ولنتمكن- بعدها- من تجميع المعلومات وحصرها- فيه- بشكل مستقل.
إنتظرني- عزيزي القارئ- في الجزء القادم والذي سنناقش فيه زاويةً أخرى من زوايا هذا التحقيق، "الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية"، مستثمرين بعض الأدوات البحثية التحليلية، والتي بها سنرسم صورة توضيحية لما نحن بصدده من شروح.
وحتى نلتقي في القريب العاجل، دعائي للمرضى بالشفاء العاجل وللأصحاء بدوام الصحة والعافية،،،
نقطة توضيحية، مهمة، وهي: أنه - وحتى - عندما ينتشر السرطان لنسيج حيوي جديد، فإن التسمية تبقى ملتصقة بإسم المنطقة التي بدأت فيها وأنتقلت منها. الشيء الآخر، وهو: حتى فيما يتعلق بخطة العلاج، فسوف تعتمد- بشكل عام ورئيس- على الخلايا النسيجية التي أُصيبت في بداية الأمر بالسرطان.
فعلى سبيل المثال، فحينما ينتقل سرطان البروستات عند الرجال إلى العظام، فإن تسميته تبقى كما هي، سرطان البروستات (ولا تسمى سرطان العظام!). وبمعنى آخر، فإنها تُسمى بسرطان البروستات الذي إنتقل للعظام. وفي الغالب، فإن الأطباء المعنيين في هذا المجال قد يتوجهون لإستخدام خطط وبرامج علاجية قد أثبتت فعاليتها- في الأساس وبالدرجة الأولى- ضد سرطان البروستات المنتقل.
وبالمثل، فسرطان الثدي عند النساء والذي إنتقل إلى الرئة، تبقى تسميته بسرطان الثدي، وليس بسرطان الرئة؛ ويُعالج- أيضًا- ببرامج علاجية تستهدف سرطان الثدي المنتقل لأنسجة مجاورة.
وفي بعض الأوقات يكون الورم السرطاني المنتقل قد بدأ في النمو في أماكن جديدة، فقط بعد إكتشاف وجوده وتشخصيه في مكانه الأولي. وفي أحوال أخرى، يكون إكتشاف السرطان المنتقل قبل إكتشاف الورم السرطاني الأولي، إلا أن لغز هذه الأحجية المتعلقة بمصدرها الأولي قد تحل من قبل المتخصصين.
وحينما يكون الورم السرطاني قد إنتشر إلى أماكن أخرى قبل إكتشافه وتشخيصه، فإن تحديد إنطلاقته النسيجية الأولى تكون صعبة بل ومعقدة للغاية؛ وفي هذه الحالة، يطلق عليه "الورم السرطاني مجهول الانطلاقة الأولية" (cancer of unknown primary).
إن ما ذكرناه في الفقرات السابقة من نقاش لموضوع الإنتقال السرطاني يحتاج- وبكل تأكيد- لمحور منفصل، في حال أردنا أن نناقش كل زواياه، ولنتمكن- بعدها- من تجميع المعلومات وحصرها- فيه- بشكل مستقل.
إنتظرني- عزيزي القارئ- في الجزء القادم والذي سنناقش فيه زاويةً أخرى من زوايا هذا التحقيق، "الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية"، مستثمرين بعض الأدوات البحثية التحليلية، والتي بها سنرسم صورة توضيحية لما نحن بصدده من شروح.
وحتى نلتقي في القريب العاجل، دعائي للمرضى بالشفاء العاجل وللأصحاء بدوام الصحة والعافية،،،
0 comments:
Post a Comment