نشعُر أحيانًا- دون سابق إنذار- أننا في خضم فوضى عارمة، وأن دولاب عواطِفنا الداخلي يدور بطريقة مُضطربة.
يحدُث هذا عند إثارة بعض المواضيع الحساسة (سيما مع ازدياد الاعتماد على تقنيات التواصل الاجتماعي المُتعددة)، والتي سُرعان ما يشتعل لهيبُها من خلال تلك القنوات التي من ضمن مُفرَدَاتِها "التواصل" و"الاجتماعية"، بل وحتى في المُنتديات العامة (إن سنح لِشيطانها الفرصة)؛ حيث أن ما يُساعد على ارتفاع حدة اللهيب هو غياب قاعدة "النقاش" العلمية العملية؛ والتي من شأنها- إذا ما قُنِّنَت وأُحكم فيها العقل وابتعدت عن "الشَخْصَنَة"- أن تحقق الأهداف التي نسعى للوصول إليها نحن جميعًا. وبمعنى آخر فإن الوصول للحقيقة- الخادمة لنا ولِقضايانا- يأتي من مُطارحة الفكرة بالفكرة، بعيدًا عن مُهاجمة صاحبها والتقليل من قدره (فإن لم يكن أخًا لنا في الدين، فهو نظير لنا في الخلق).
وكما يبدو لي بأن هذا التقديم ينطَبِق بشكل متفاوت على مجمل القضايا المطروحة من قِبلنا، وعلى أصعدتها المُختلفة.
هنا لا بُد وأن أُشير لمجموعة من النقاط؛ يأتي في طليعتها "البُرهَان" الواجب الاعتماد عليه عند تقديم أي معلومة للطرف الآخر (أيًا كان هذا الطرف!)، ومن ثم يأتي بعدها في الترتيب تحديد مدى قوة الاعتماد على ذلك "البُرهَان"، ومن بعد ذلك يُطرح موضوع التفريع لـِ"البُرهَان" المُتَعَلِّق بطبيعة الموضوع عنوان "القضية" المُزمع إثباتها:-
- فهل ذلك "البُرهَان" مُتَعَلِّق بتحليل لِبيانات موجودة،
- أو أنه مُتَعَلِّق بتجارب مُطَبَقة تُبنى عليها نتائج مُستقبلية،
- أم أنه مُتَعَلِّق بتحقيق واستنباط لبحوث مُعتمدة وموثقة في مصادر مُحكمة، وإنْ كانت مُتضاربة النتائج،
- أم أنه مجرد مراجعات بحثية يُؤسَس عليها نظريات وأطروحات دراسية،
- أم أنه مبني على مُلاحظات عامة ومؤشرات تم تسجيلها على المستوى الشخصي أو الجماعي ضمن إطار مُعين، لتكون قابلة لأن تُلفت أصحاب العقول لبعض العناوين التنظيرية الخاصة.
ما ذكرته أعلاه هو بعض من مُختصر التفريعات الرئيسة في طبيعة "البُرهَان" و"القضية"؛ وإلا فإن تفريعات أُخرى مرتبطة بنفس الموضوع موجودة ولكنها خارج تغطية هذا الكلام (المبنى على الاختصار).
نقطتي الأخرى، مُتَعَلِّقة بماهية "النقاش"، والذي أعده الأداة التي بها نرسم معالم وهيكلية "البُرهَان" و"القضية". وأعتقد بأنه يجوز أن نطلق على الجملة السابقة بـ "الاحتجاج العلمي المبني على البراهين".
إن الكثير من الخلافات والاختلافات اليومية بين عناصر المجموعة الواحدة ناتج عن غياب قواعد "النقاش"؛ حيث أن أحاديثنا سُرعان ما تتحول لجَدَل (حتى وإن توفر "البُرهَان" على اختلاف قوته ومتانته)، سيما ذلك الجِدَال العقيم المُتعب للنفوس والمُثير للمشاعر؛ بل وما يزيد الطين بلة هو خروج "القضية" عن حدودها الطبيعية بسبب المد والجزر المُفتَعَل في أسلوب الطرح، حيث أن أحد عناصر تضخيمها هو "العاطفة السالبة" بِصورها المُختلفة (والتي منها الدفاع المُستميت عن النفس أو عن الدائرة التي يعتقد الفرد بأنه ينتمي إليها، ومن صورها أيضًا السعي الحثيث لاصطياد الطرف الآخر في الماء العكر من أجل كسب "القضية"، وغيرها من صور لِمَا أُسميه بـ "العاطفة السالبة")، مما يجعلها عديمة الفائدة، لأن عاطفة الفرد- حينها- تجعله يَنشَغِل إما بنفسه أو بغيره مُبتَعِدًا عن جوهر "القضية".
فالمُجَادَلَة (كمُحادثة تتميز بالحدية والهجومية دون أدلة واضحة) ليس لها أي قواعد تضمن مشاركة الطرف الآخر؛ وهي عقيمة النتائج في جميع أحوالها، والتي من ضمنها:-
- إما أن تنتهي بفرض رأي أحد الأطراف وخروج الطرف الأخر غير راض بالنتيجة،
- أو أنها تنتهي بخلاف وعصبية،
- وأحيانًا أُخرى تَنْفَضُّ في مُنتصفها من أجل تقليل الخسائر تاركةً بعض الأثار غير المُحببة.
وفي الطرف الإيجابي الآخر، نجد النقيض تمامًا، ألا وهو "النقاش" الذي يتسم بحواره الهادئ، والذي يسمح باستعراض جميع وجهات النظر، والذي يَفْتَرِض وجود النية المسبقة- من الأطراف المُشَارِكة- بأن هدف طرح "القضية" ونقاشها (على النحو المُتفق عليه) هو الوصول للحقيقة أيًا كان صاحبها، بلغة عقلانية لا عاطفية. أي أن المُنَاقِش- ضمن أفراد المجموعة- يُقدم ما لديه مُعتمدًا على البراهين التي حصل عليها، ومنتظرًا تقديم الطرف الآخر للحقائق المُعَزَّزَة بدلائل النقض للقضية المطروحة؛ لأنه يعتقد بأنه في نهاية المطاف سَيَقوَى مع نظيره في "النقاش".
ويجدر بنا أن نَذكر بأن ما يُساعد على دفع القضايا لطرف "المُجَادَلَة" هو غياب عنصر التخصص في مجال ما يُطرح من قضايا من قِبل القائمين عليها. وعلى عكسها تمامًا، فإن ارتفاع منسوب المعرفة التخصصية من جانب، والاطلاع والخبرة من جانب آخر، في الموضوع المطروح يزيد من اقتراب أفراد "القضية" من "النقاش".
وما أردت الإشارة له هو أنه وعند طرح أي قضية، فإنه لابد وأن يكون أساسها القاعدة الشافعية الذهبية القائلة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". وعليه، أيًا كان طارح الفكرة، سيكون سؤالنا له: ما هي الحقائق والبراهين التي تستند إليها؟
إن محاورة الآخر تُبنى على أساس أن يكسب الإنسان معلومات جديدة تزيد من مخزونه الفكري والمعرفي، وتغير من قناعته عندما يجد الحقيقة في موقع آخر؛ وهذا هو أساس تقدم الأنسان ونمو تطلعاته، والتي على إثرها يتمكن- في أقل التقديرات- من الحفاظ على مُكتسباته المادية والمعنوية، هذا إن لم يُنَمِّيها (وهو الأمر المرجو دون أدنى شك). وخير ما نختم به ما قاله الإمام علي (ع): "أعقلُ الناس مَن جمع عقول الناس إلى عقله". وعليه، فإن الاستنتاج الذي نسعى للوصول إليه هو أن من يناقشنا في قضية ما على أساس "البُرهَان"- في واقع الأمر- يُقَدِّر ويحَتَرِم عقولنا، ولهذا هو يُحاورُنا من أجل أن يَقوَى معنا ونَقوَى معه.
0 comments:
Post a Comment