الدعوة
ذكر أحد الإخوة أنَّه جاء عن أبي الحسن "ع" قوله: "اللحم ينبت اللحم، ومن أدخل جوفه لقمة شحم أخرجت مثلها من الداء". حيث كان المراد من هذا الاستشهاد تأكيد أنَّ الشحم مفيد.
الرد
أولًا، عند حديثنا عن عدم قبول أنَّ أكل الشحم دون قيدٍ أو شرط أمر مفيد فهو حديث - بما لا شك فيه - يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالدائرة الطبية والأبحاث الإكلينيكية الرافضة لمثل هذا الطرح. أي أنَّ الكلام مُتَعَلِّق بالدلائل المُوَثَّقَة من قبل المنظمات الصحية وجمعيات القلب العالمية (دون أنْ أشمل بقية الدوائر)، وبما جاء فيها من أبحاث ودراسات مُحْكَمَة (في هذا الشأن فقط.)؛ سِيَّمَا أنَّ أصل القضية كان متصلًا بهذه الدائرة؛ وعليه، هو من باب "حاجوهم بما يحاجوا به أنفسهم".
ثانيًا، في حال جزمنا باليقين القاطع أنَّ ما جاء في الرواية هو حقًا قد ورد عنهم "ع" (والذي سيعني أنَّنا وسعَّنا دائرة النقاش وخرجنا من حصرها في دائرتها البحثية المُتَعَلِّقة بالطب الحديث)، فإنَّنا عقائديًا لابد أنْ نأخذ به. وعليه، فإنَّ المُتَرَتِّب على الأمر أهمية تفكيك العبارة وفهم كلماتها والمناسبة التي وردت فيها (وهل هي عامة؟ أم مُقَيَّدَة بشرط مناسبتها؟)، من أجل أنْ يتبين لنا المعنى (وهي- بما لا شك فيه- وظيفة المتخصصين في علم الرجال والتحقيق الروائي والمعارف الفقهية الحوزوية).
ثالثًا، دعونا نجتهد ونفكك العبارة بما نملكه من أدوات متواضعة على المستوى اللغوي الموجود لدينا حاليًا في كتب المفردات والتراجم العربية وبالقدر الذي توصل إليه أصحابها من فهم مُتعارف عليه لمعانيها المتوفِّرة والتي وقعوا عليها في الاستخدامات المُختلفة، علمًا بأنَّ المُتعارف عليه من معاني لنفس المُفردات في حقبة الأئمة الأطهار قد يكون مُغايرًا لما وصل له هؤلاء المُترجمون الذي دوَّنوه في ترجماتهم اللغوية (هذا في حال سلَّمنا أنَّ الرواية قد وردت عنهم "ع")؛ وهنا سأقف في الجانب الأول عند كلمة "لقمة"؛ حيث ورد في تعريف اللقمة لغةً (كما جاء في لسان العرب) أنَّها: "مَا يُلْقَمُ مِنَ الطَّعَامِ فِي الْفَمِ مَرَّةً". أي أنَّنا نتحدث عن مقدار محدد بحجم اللقمة وليس أكثر؛ بمعنى أنَّنا لا نتحدث عن النهم في أكل الشحم، بل نتحدث عن وحدة مقدارها "لقمة"، وهي التي جاء الاستحباب فيها أنَّ تكون بأطراف الأصابع وليس بباطن اليد. هذا من جانب أولي، فلاحظ.
أمَّا في الجانب الآخر- وهو المُتَعَلِّق بتفكيك معاني بقية ما جاء في الرواية من كلمات (على نحو التسليم القاطع بأنها صدرت من الإمام "ع")، الذي يدفعني للوقوف عند كلمة "أخرج"- فقد ورد من ضمن ما جاء في معاني كلمة "أخرج" لغةً، أنَّها تأتي أيضًا بمعنى: "أظهر"، كقولنا "أخرجَ اللهُ ما في قلبه"، أي: "أظهره"؛ ومنه قوله عز وجل: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ". وعليه، فسؤالي الموجه لأصحاب الاختصاص في علومهم "ع"، ألا يحتمل المعنى هنا: أنَّ من أدخل في جوفه لقمة من شحم أظهرت عليه مثلها من الداء؟
وأمَّا إنْ كان القصد بمعنى "جعله يخرج منه" (كما هو متعارف)، فهنا أقول: أنَّه معلوم طبيًا أنَّ السمن مطلقاً وخاصة سمن اللحوم يزيد في الإسهال، وبالتالي قد يكون المعنى هو أنَّ هذا الاستخدام على النحو المذكور في الرواية (إن صح نقلها عن الإمام "ع") قد يكون مُتَعَلِّقًا بإخراج ما تعسَّر إخراجه من الجهاز الهضمي؛ وعليه يكون الطرح مُقَيَّد بمناسبة مرض محدد وليس على نحو الإطلاق.
ومِمَّا نسْتَدِلُّ به على ما ذكرناه في العبارة السابقة، ما جاء منسوبًا للإمام الصادق "ع" في طب الإمام الصادق "ع" (الذي لا نستطيع الجزم أيضًا بكل ما جاء فيه إلا بعد التحقيق ومتابعة صحة صدور محتوياته - كل على حدة - عنه "ع")، حيث ورد عنه "ع"، حينما جاءه رجل فقال له: "يا بن رسول الله: إن ابنتي ذبلت، وبها البطن، فقال له "ع": وما يمنعك من الأرز مع الشحم، ثم علمه طريقة طبخه ففعل ذلك كما أمره فشفيت ابنته به" (هذا على حد المنسوب للإمام "ع" في طب الإمام الصادق "ع").
رابعًا، ورد عن المصطفى "ص"، مفهرسًا ومبوّبًا في بعض كتب الحديث تحت عنوان "أضرار أكل الشحم" (كما هي الفهرسة مثلًا في كتاب "مدينة الحديث"، فلاحظ وانتبه لمسألة التبويب والفهرسة، أي أنَّ عبارة "الشحم" في الرواية جاءت على نحو الضرر وليس الفائدة في فهم مؤلِّف الكتاب)، قوله "ص": "عَلَيكُم بِاللَّحمِ؛ فَإِنَّ اللَّحمَ يُنمِي اللَّحمَ، ومَن مَضى لَهُ أربَعونَ صَباحاً لَم يَأكُل لَحماً ساءَ خُلُقُهُ، ومَن ساءَ خُلُقُهُ فَأَطعِموهُ اللَّحمَ، ومَن أكَلَ شَحمَةً أنزَلَت مِثلَها مِنَ الدّاءِ". (المحاسن، جلد 2، صفحه 256، حديث 1807 عن أبي اُسامة عن الإمام الصادق عليه السلام؛ بحار الأنوار، جلد 66، ص 67، حديث 43)؛ وهنا يتعزَّز المعنى فيما تم ذكره في النقطة الثالثة بكلمة "أنزل" المتوافقة مع معنى الإخراج من أسفل الجهاز الهضمي.
وللمعلومية (كون أنَّ ذكر اللحم قد تكرر مرارًا في هذا الرد على أنَّه مفيد وتركه يُقسِّي القلب)، فإنَّه لابد من التنبُّه أيضًا إلى أنَّ هناك أحاديث وردت عنهم "ع" تُشير لضرورة عدم التعود على أكل اللحم لأنَّه يقَسِّي القلب؛ ومنه ما ورد عن النبي "ص": "مَن أكَلَ اللَّحمَ أربَعينَ صَباحاً؛ قَسا قَلبُهُ" (طبّ النبيّ "ص"، صفحة 5؛ بحار الأنوار، جلد 62، صفحه 294). وورد عن الإمام الصادق "ع": "كانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَكرَهُ إدمانَ اللَّحمِ ويَقولُ: إنَّ لَهُ ضَراوَةً كَضَراوَةِ الخَمرِ" (المحاسن، جلد 2، صفحه 261، حديث 1827 عن عبد الرحمن العزرمي؛ بحار الأنوار، جلد 66، صفحه 69، حديث 57).
وأضيف على ذلك (خصوصًا وأنَّ بعض الإخوة قد أراد أنْ يدعم موضوع أكل ما يُسمَّى محليًا بـ "الباجى" أو "الكراعين" المغلية، وأعني مرقة العظام مع الخبز، من خلال استشهادهم بما فهموه خطأ على أنّهم "ع" يوصون بأكل الشحم؛ وهو ما لا نتفق معهم فيه اعتمادًا على مجمل قراءتنا لما ورد عنهم "ع" تحت مظلة نفس العنوان؛ حيث أنَّهم لم يلتفتوا لما جاء في السنة النبوية في هذا الشأن): قول الحبيب المصطفى "ص": "شِرارُ اُمَّتِي الَّذينَ يَأكُلونَ مِخاخَ العِظامِ" (طبّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، صفحه 5؛ بحار الأنوار، جلد 62، صفحه 293).
الخلاصة
أنَّ ما أردنا الإشارة له في هذه الوقفة هو أنَّ هناك أكثر من نقطة لابد أنْ تأخذ بعين الاعتبار عند إقحام الرواية (محل الدعوة) في هذا الموضوع؛ خصوصًا أنَّنا اليوم نقف أمام حواجز طبية لا نستطيع القفز فوقها إلا بيقينٍ قاطعٍ؛ ولا بُدَّ من أخذ الصورة كاملةً بجميع زواياها؛ فكلامهم نور وهم القرآن الناطق، ولابد من التحقُّق مِمَّا جاء منسوبًا إليهم وفهم مناسبته التي ورد فيها (وهل هو عام؟ أم مُقَيَّد بشرط؟)، ومن ثم إكمال المعنى ببقية الروايات (الواجب عدم تضاربها، وأهمية ارتكازها على المنبع الأصيل المتصل بالمصطفى "ص"، وكتاب المولى عز وجل الذي هو المرجع الأوَّل والأخير لكلامهم "ع")، والذي سيعني حينها أهمية الرجوع لأهل الاختصاص في هذا المجال ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وحتى لا تكون هناك تجزّئة وانتقائية في فهم توجيهاتهم (نأخذ منها ما يناسب رغباتنا ونغفل عما لا يُناسبها)، بل وحتى لا ينطبق علينا قوله عز وجل: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ".
0 comments:
Post a Comment