س/ لقد كان الكثير من أهل العلم والورع والتقوى (بل وحتى الزاهدين في الديانات والفلسفات الأخرى) يقتصرون في أغذيتها على الفواكه والخضروات، بل وأنَّهم كانوا يأكلون القليل من بقية المجموعات الغذائية، دون أنْ يلتزمون بالحصص المنصوص عليها من العناصر الغذائية التي يتم التأكيد عليها على نحو دائم في أيامنا هذه؛ حيث أنَّنا نسمع بأستمرار عن الكثير منهم بأنَّهم كانوا كثيري الصيام وقليلي الأطباق الغذائية عند إفطارهم (بعد فترة جوع قد تستمر لمدة لا تقل عن 16 ساعة)؛ ومع العلم من كل هذا هم في تمام صحتهم وكانوا لا يشتكون من أي أمراض شبيهة بأمراضنا الراهنة. وهو الأمر الذي يأتي مُخالفًا لتعاليم المؤسسات الغذائية الحالية والمنظمات الصحية العالمية التي تنص بعض بنودها - مثلًا - على النصح بتعدد الوجبات وزيادتها وتنظيم حصصها بالتساوي وبالمقادير الدقيقة كي يتسنى للإنسان أنْ يتمتع بصحة جيدة. ومن هنا يتبلور السؤال القائل: كيف لنا أنْ نوفِّق بين تعاليم الطب الحديث بشأن النظم الغذائية وبين الواقع الذي نسمع به والذي كان غالب هؤلاء القدماء الصالحين متعايشين معه؟
ج/ اختصار الإجابة تكمن في كلمات السر التالية: -
- إنَّ العبرة في نوعية الغذاء لا في كميته. بل أنَّ الحصول على كمية زائدة منه أثناء الوجبات هو من الممارسات الخاطئة في التغذية خصوصًا حينما يكون على حساب حصتي السوائل والهواء في المعدة. حيث أنَّ المعدة - عمومًا - يجب أنْ تبقى على نحو دائم مقسمة لثلاثة أقسام: غذاء صلب وسوائل وهواء. ولقد جاءت تقنية توزيع الأغذية كأحد الحلول لتحقيق هذا المفهوم، وليس من أجل زيادة الغذاء فوق معدل الحاجة له. ولعل هذا هو الذي كان الكثير من أصحاب العلم والورع والتقوى يقتاتون عليه.
- إنَّ الصيام يعطي المجال للجهاز الهضمي وللكثير من الأعضاء الحيوية كي تأخذ وقت من الراحة والتعافي من ضغط الوجبات واستمرارها. بل أنَّه وسيلة من وسائل تنظيف الجسم من التراكمات غير المرغوب فيها؛ مصداقًا لما هو مروي عنه (ص): "صوموا تصحوا". ولعل هذا هو من الممارسات التي تتوافق مع الطب الحديث ولا تخالفه قيد أنملة.
- إنَّ طبيعة الحياة في تلك الأيام وقلة الموارد الغذائية كانت تدفع الناس بشكل تلقائي للاعتماد على الأغذية الزراعية الطبيعية المعدودة في يومنا هذا كأحد الكنوز المجهولة والمتمثلة في الحشائش الخضراء والخضراوات والفواكه. حيث إنَّ الناس في مثل هذه الأيام قد هجروها، أو لا أقلها ما عادوا يعتمدون عليها بالصورة التي يجب أنْ تكون عليها.
- إنَّ أغذيتنا في مثل هذه الأيام بدأت تقتصر بالدرجة الأولى على النشويات المتمثلة في الأرز والمخبوزات المختلفة واللحوم الحمراء ظنًا منا بأنَّها الغذاء الصحي.
- إنَّ نظامنا الغذائي لم يعد يتوافق مع النظام الهرمي الذي يُفترَض أنْ يكون مُتدرِّجًا في انخفاض كميته (من لحظة الاستيقاظ الأولى حتى اللحظة الأخيرة من الْيَوْمَا)، وأنْ لا تأتي الوجبات قبل النوم مباشرةً.
- إنَّ عدم الاستقلالية في النظم الغذائية والاعتماد فيها بالدرجة الأولى على ما هو مستورد فقط، والذي يأتي غالبًا لنا محفوظًا أو مثلَّجًا قد أفقد أغذيتنا الكثير من جودتها.
- إنَّ استهلاك السكر الأبيض المكرر التجاري في أيامنا هذه والابتعاد عن الطبيعي منه قد أرهق أجسامنا وأتعبها وأثَّر على مقاومتها. وهو الأمر الذي لم يكن ضمن أنظمة القدماء. وهنا يكفي أنْ نرتكز على الطبيعي منه وألَّا نرضى بغيره.
- إنَّ من أهم ما تخلّينا عنه في مثل هذه الأيام هو الحركة والحركة والحركة التي بها يستقيم الجسمالبشري، والتي بها يستطيع أنْ يستعيد عافيته ويقوِّي أجهزته. والمقصود بالحركة هنا بدل المجهود الذي يجعل الإنسان يتنفَّس بصورة متزايدة ويتعرّق على نحو ملحوظ. فمقارنة واقعنا بواقع القدماء غير عادلة، فلا عملنا كعملهم ولا حركتنا كحركتهم.
- أمَّا الأمر الأخير فهو أنَّنا لا نملك من الإحصائيات ما يجعلنا نؤكِّد باليقين القاطع بأنَّ صحة الكثير من أهل العلم والورع والتقوى كانت أفضل من صحتنا، ولا ما يبين لنا أيضًا بأنَّ صحتنا أفضل من صحتهم. ولكن المؤكَّد أنَّ النقاط المذكورة أعلاه هي من النقاط الواجب الالتفات لها، فكلها نقاط تتوافق مع العقل والمنطق، هذا فضلًا عن توافقها مع جميع المدارس الصحية (القديمة منها والحديثة).
ومن هنا، نستطيع القول بأنَّ هناك توافقًا بين نُظم أهل العلم والورع والتقوى الغذائية وطبيعة النصوص التي تؤكِّد عليها المؤسسات الصحية المثبتة علميًّا والمُستندة على الأدلة والبراهين المحكمة (وَإِنْ كان توافقًا عفويًّا). بل أنَّ نصوص المؤسسات الصحية قد جاءت موجَّهة لنا - نحن أبناء المرحلة الحالية - بعد أنْ تخلَّينا عن الإلتزام بما يُفترَض أنْ نقوم به والذي يُفترَض أنْ يكون مُتماثلًا في إيقاعه مع إيقاع ذلك الواقع الذي عاشه غالب هؤاء القدماء.
0 comments:
Post a Comment