Tuesday 3 January 2023
January 03, 2023

القراءة.. ضرورة مُلِحَّة في عملية الارتقاء بالفكر الإنساني وليستْ مُجرَّد هواية


تدفعني الإجابة على السؤال الذي تم توجِّيهه لي من قبل أحد الأصدقاء المُهتمين بأمور الكتب والمكتبات والذي انطلق من رحم أهمية القراءة، وهل هي ضرورة مُلِحَّة في عملية الارتقاء بالفكر الإنساني؟ أم أنَّها تندرج تحت عنوان الهواية والترفيه عن النفس؟ إلى الرجوع إلى سنوات مضت وكيف كانت البداية بالنسبة لي في هذا العالم المُترامي الأطراف والمُتشعِّب المعلومات. ولعل هذا يدفع أي شخص (موجّه له نفس السؤال) للرجوع للماضي من أيامه أيضًا كي يقف وهو الآخر على تلك البداية التي جمعته مع أوّل كتاب أمتلكه بمحض ارادته. وعليه، فإنَّ مُجمَل إجابتي في الفقرات القادم ة لن ترتبط بجانب الاستعراض بل بحقيقة موقفي كمُجيب على أصل هذا السؤال الذي حصرني في زاوية ضيقة.

ومن هنا أرى بأنَّ نشاط الاطلاع اليومي الذي بدأتُ به في مراجل الدراسة الأساسية تمَثَّل في قراءة الروايات والقصص المُختلفة التي كانت تنقلني لعوالم أُخرى كانت تُداعب مشاعري من جانب وتنقلي لعوالم قريبة من المثالية من جانب آخر. بل وتمَثَّل كذلك في قراءة بعض الكتب العِلمية التي كانتْ تُناقِش تركِّيب الكون والنظريات العلمية والفلسفية حول نشأته الأولى بكل تعقيداتها التي لم تكن بالضرورة واضحة المعالم بالنسبة لي حينها (وأنا في مُقتَبَل العمر) حيث كانت مُكوناتها مُتداخلة في ذهني ولم أستطبع وضع فواصل واقعية بينها فتداخلت العناوين المادية والفلسفية عندي مِمَّا زاد من تعقيداها. وهي دائرة فكرية قد تظهَر على أنَّها بعيدةٌ عن واقع التطبيقات التي أمارسها بشكل رسمي في هذه الأيام، إلّا أنَّها حنيها كانت تُقدِّم لي إجابات (بشكلها النسبي) لم استطع الحصول عليها مِمَّن هم حولي بشأن هذه الجزئية العلمية التي شغلت الفكر البشري على مدار ألفيات من الزمن. 

ومع العلم من كل هذا فإنَّني أوكِّد بأنَّ تلك النوعية من القراءة لم ترتبط في بادئ الأمر بِتفهّمي لضرورتها ولا بكونها ترتكز على عنصري الهواية والترفيه. فالحقيقة كانت تدور حول محورية التشوِّيق المُتعَلِّق بغموض المعارف التي كنتُ أقرأها لأول مرةٍ بحثًا عمَّا كان يُشبع بعضًا من تساؤولاتي بشأن تلك العلوم الفلكية والتي صاحبها الحصول على الكثير من المعلومات الثقافية والتي ظهر بعضها على أَّنَّه غير متوافق مع ما كنتُ أعرفه من الروافد المُحيطة بي وهو ما أثار فضولي وشغفي المُتعلِّق بسؤال أكبر هو: لماذا كُل هذا الاختلاف؟ 

أي أنَّ قراءتي المبدئية بُنيتْ على أسئلة كانتْ تدور في ذهني بخصوص بعض العلوم والتي وضعتني دون سابق إنذار أمام ضخامة تلك المعلومات، الأمر الذي دفعني نحو طرح المزيد من الأسئلة والبحث عن اجابات لها بطريقة تسلسلية، ولم تكن مُجرد قراءة من أجل القراءة المفروضة علي. وهو الأمر الذي لاحظته مع مجموعة يُعتَدُ بها من أفراد الجيل الحديث عند حديثي العابر معهم وطرح بعض الأسئلة عليهم، حيث كانت المُفاجئة عند تقدِّيم إجابات من قبلهم كانت مبنية (كما قالوا) على ما قرأووه في هذا الشأن (بغض النظر عن مصدر القراءة: كتابًا كان أو شبكةً عنكبوتيةً، يتوافق مع نظرتنا أو يختلف معها). والمغزى هنا يكمن في بحث أبنائنا عن اجابات على أسئلة حارت عقولهم فيها بعد أنْ غابت الاجابة من قبلنا عليها إما بسبب بعدنا الفكري عنهم والتعامل معهم على أنَّهم مازالوا صغارًا أو بسبب انعدام الاجابة الواقعية عندنا عند توجِّيه السؤال من قبلهم لنا. ولعل ارتكازهم على التجوّل بين منصات الشبكة العنكبوتية (وليس بالضرورة الكتاب بصيغته الورقية) تعاملهم معها على أنَّها وسيلةٌ سهلةٌ ومباشرةٌ للحصول على كل ما يريدونه من معلومات بغض النظر عن هوية تلك المنصات.

وبمعنى آخر، أستطيع أنْ أقول: بأنَّ المفتاح الحقيقي وراء دخولي لعالم القراءة ارتكز على حقيقة غياب الإجابات المُباشرة المُتعلِّقة ببعض الأسئلة التي كنتُ أطرحُها حينها والتي ارتبطتْ (كما ذكرت في بداية هذه الفقرة) بالأجرام السماوية الموجودة في هذا الكون الواسع وما يجري فيه من مُتغيِّرات. وحيث إنَّي كُنتُ - لحظتها - مُنشغلًا فكريًا بتلك التساؤلات الغامضة، فإذا بي أجدُ نفسي - تدريجيًا - اقترب من صٌحبةِ من كان يُقدِّمُ لي إجابات وافية، ألا وهو الكتاب (بعد أنْ غاب بصورته المُباشرة من أفواه المُحيطين بي). وهنا أتبسائل: لو فرضنا أنَّي كنتُ من مواليد هذه الفترة، فهل سيكون صاحبي هو عالم الشبكة العنكبوتية؟! أم أنَّي سأبقى أسير على المسار الورقي؟!

وأعتقد جازمًا اليوم بأنَّ القراءة - بعد أنْ نضج مفهومها لذي - بمعناها الحقيقي الفعَّال (أي الذي يعي تقلِّيب المعلومة والتبحُّر في زواياها المُختلِفة على أختلاف وجهات النظر فيها ومُعتقدات أصحابها) تُعدُ أمرًا حتميًا يجب القيام به من أجل الوصول إلى معرفة معلومة كانتْ في الأساس مجهولةً من قِبلنا، أو من أجل الوصول لأخر التطوّرات المُتَعلِّقة بتلك الحقائق التي قد نكون نعرف بعضًا من مُقدَماتِها.

وعليه، فالقراءة (كما أراها) هي وسيلة واقعية ترتبط بطبيعة التركِّيب الفكري لمن يسعى لأنْ يتبحَّر في مجال مُعيَّن، يُمَكِّنه في نهاية المطاف من الاطلاع على ما يدور حوله من علوم عامة أو علوم تخصصية؛ حيث إنَّه كلما زدنا من سرعة لف دولاب عملية القراءة ومقارنة عباراتها في مجال مُعين والبحث في حقيقتها، زدنا بشكل طردي من حجم المحتوى الفكري المُتغلغل في أدمغتنا.

وعليه، فإنَّ يقيني الحالي ينص على أنَّ القراءة ضَرورةٌ، وأنَّها أمرٌ مفروضٌ علينا (رضينا أم أبينا) من أجل أنْ نُجيبَ على التساؤلات التي يعتريها غموض في حياتنا. بل وأنَّ قيمتنا المعنوية عند الآخرين مرتبطة بحجم ما نملكه من فكر يتم الحصول عليه من خلال القراءة الهادفة (وعبارة هادفة هذه تستدعي التوقُّف، لأنَّها في أقل معاييرها تعني القراءة من المصادر المعروف كُتَّابُها والموَّثَق محتواها). 

واليوم، فإنَّنا حينما نتأمَّل في الأولوية الإلاهية التي ترتَّبت عند نزول الوحي الآمين على سيد الخلق أجمعين ورسول رب العالمين محمد (ص) والتي تمثّلت في كلمة "اقرأ"؛ نستطيع أنْ نُقدِّم دليلًا مقنعًا على أهمية القراءة. ومن هنا نستطيع أنْ نقول: بأنَّ القراءة ليستْ مُجرّد هواية (وإنْ صاحبها الترفيه والتشوِّيق)، وأنَّ حصرنا لها في هذا المفهوم فقط سيعني (وكما أعتقد) أنَّنا نقول - بطريقة غير مباشرة - إنَّها لا تصلح لأنْ تُحقِّق الأهداف الفكرية التخصصية السامية، علمًا بأنَّ التشوِّيق يبني قاعدةً عليها يُمهدُّ للدخول لعالم من تلك الأهداف السامية. حيث إنَّنا لو دقّقنا في حقيقة التساؤلات التي يُقدِّمها أفراد الجنس البشري - على اختلاف توجّهاتهم - سنجد بأنَّها تنتمي لمجالات مُتعدِّدةٍ، وأنَّ البحث عن إجابات عليها سيعني أنَّنا لا بُدَّ وأنْ نتجاوز حدود مفهوم التشوِّيق. وعليه، فالأنسان يلجأ للقراءة (من خلال صحبته للكتاب الموضوعة له خُطة مُسبقة، وليس أي كتاب) من أجل أنْ يقفَ على خُلاصةٍ فكريةٍ مُحددةٍ تتضمَّن بين طيّاتها تفكِّيك رموز لتساؤلات تدور في ذهنه. ومن هنا يأتي السؤال المهم عند تهيئة جيل واعٍ: كيف لنا أنْ نُنمِّي القراءة الهادفة عند أطفالنا (كل حسب اهتماماته الفكرية)، كضرورةٍ مُلِّحةٍ، وإنْ تخلَّلها الترفيه والتشويق أو الألعاب المُحفِّزة لعقولهم تجاه تلك الاهتمامات؟

وبهذا المفهوم، تكون القراءة وسيلةً لبلوغ هدفٍ معرفيٍ مُحدّدٍ، قد يرتبط بتوجُّه خاصٍ أو عامٍ، أو حتى بهواية شخصيةٍ أو ترفيه أو تشويق تنغرس جذوره بصورة أعمق عند تطبيقه في سنْ مُبكِّرة. ولعل هذه الفقرة تفتح أفاقًا واسعة لِلتأمُّل في طبيعة ما نُقدِّمه لأبنائنا من علوم مدرسية وغير مدرسية، وهل هم بالفعل يقرأونها؟ أم أنَّهم يتخذونها جسرًا لاجتياز الامتحانات والانتقال للمرحلة اللاحقة فقط لا غير؟ أي ضمن نطاق معنى المقولة: "مُجبَرٌ أخاك لا بطل"!

وبما أنَّ بروز تلك التساؤلات التي يُثيرُها العقل (بين الفينة والأخرى) أمر فطري ولا مفّر منه؛ فإنَّ من أجَلِّ وأسمَى صورِ عمليات إشباع تلك الفطرة الطبيعية (وهو ما يتلمّسه الإنسان في مراحل مُتقدِّمة من حياته، تأتي تباعًا بعد المرحلة الأولية) اتخاذ القراءة كوسيلة لِتحقِّيق الكثير من القناعات التي تحاور الإثارات الفكرية والتي (في عمقها العلمي) تتركَّز في مراجعة ما كُتِبَ من قبل أشخاص إما أنَّهم: (1) مازالوا على قيد الحياة، ولكنَّنا لم نتمكَّن من الالتقاء بهم والتحدُّث معهم بصورة مباشرة، أو (2) أنَّهم يعيشون معنا ولكنَّهم من الأشخاص الذين يلجؤون لِترجمة أفكارهم من خلال الكتابة (كطريقة للتواصل مع الآخرين) أكثر من أي طريقة أخرى، أو (3) أنَّهم مِمَّن عاشوا في حقب تاريخية انتهتْ ولم يتبقَّى لنا من تراثهم الفكري سوى تلك المعارف المكتوبة. وعليه، أستطيع القول: بأنَّ القراءة حلقُة وصلٍ فكريةٍ بين عقولنا وعقول الآخرين!

إننا وإذا ما آمنَّا بتلك الحقيقة وعملنا على تطبيقها بطريقة مدروسة وهادفة، فإنَّنا سنتمكّن بعدها من تلقّيح أفكارنا بأفكار غيرنا من المتبحّرين في جُزئِيَات معرفية تنتمي لنفس الدائرة التي تستقطبُ توجُهاتَنا؛ وسنتمكَّن بعدها من فهم كيفية توصّلهم لتلك المعارف، ولماذا توقّفوا عند تلك المحاور الفكرية؟ وما هو المطلوب منا - إذا ما أردنا أن نُضيف على تلك العلوم - من أجل أنْ نرتقي بها؟ بل وغيرها من أسئلة جوهرية مهمة تُلامِس حقيقة أنَّ القراءة - كوسيلة لتحقيق الأهداف - تُعدُ ضرورة.

وفي الجانب الآخر المعاكس، فإنَّني أعتقد بأنَّه يجب علينا أنْ نتفهم بأنَّ القراءة لم تعد نشاطًا عامًا تزوّدنا بالمعلومات دون مُقابِل؛ بل أنَّها عماد الوسائل التي تُساعدُنا على بناء قاعدةٍ نرتكْز عليها من أجل أنْ نُتَرْجِم أيضًا أفكارنا للأخرين (وأعني بأنَّها عمليةُ تدريبيةٌ تُمكِّنُنا من تزوِّيد غيرنا بما نملكه من أفكار تبلورتْ أثناء القراءة)؛ وأنَّ ما نقوم به من عملية إطلاع على ما بَحَثَ فيه آخرون - قبلنا - هو من أجل البدء من النقطة التي انتهوا عندها، أو من أجل مراجعة نقاط كتبوا فيها ولكنَّنا نرى بأنَّها لا تُمثِّل الرأي الصواب (من وجهة نظرنا التحلّيلية، والتي فيها قد نكون من وجهة نظر الكُتَّاب أنفسهم ووجهة نظر آخرين مُخطئين!)، أو قد يكون من أجل سببٍ علميٍ تخصصيٍ خاصٍ، وكُلُّها - في نهاية المطاف - تُعدُّ مُبرِّرًا لما نقوم به من قراءة لذلك التراث الفكري.

إذًا، نحن لا نقرأ فقط من أجل القراءة (لنكون بعدها محسوبين على شريحة القُرَّاء)، بل إنَّنا نقرأ من أجل الحصول على إجابة لسؤال مُعلَّق في أذهاننا؛ وبدون اللجوء للقراءة الهادفة، سنبتعد تدريجيًا عن معرفة التطوّرات الحاصلة في تلك العلوم؛ وهو ما سيُضْعِفُنَا وسيُوَلِد ثغرات بيننا وبين تلك العناوين العلمية التي تنمو- دون توقف - في تلك المجالات العلمية المُختلفة.

وعليه، فإنَّني أستطيع أنْ أقول - وبالاعتماد على ما تقدم - بأنَّنا (في واقع الأمر) وإذا ما أردنا أنْ نرتقي بفكرنا ونزاوج بينه وبين أفكار الآخرين على اختلاف المراحل الزمنية التي مرّوا بها حتى يومنا هذا، ونكون أصحاب رسالةٍ حياتيةٍ واضحةٍ فإنَّه لا مناص لنا إلًا من عملية القراءة والاطلاع الجادين لنرتقي بفكرنا إلى مستويات أعلى.

0 comments:

Post a Comment