في بداية المطاف، نقول بأن الحديث عن مرض السرطان، وبما لا شكك فيه، أمر شائك، وقد يحرك الكثير من المشاعر عند البعض، خصوصًا بالنسبة لأولئك الذين بينهم يعيش عزيز عليهم، وقد تعرض لداء أحد أنواعه. عزيزي القارئ، إن الهروب من الخوض في هذا الموضوع- ونحن نعلم من خلال ما أطلعنا عليه من بيانات حجم وأهمية ما نحن بصدده من معلومات يجب تقديمها للناس- يصورنا بهيئة الطائر الذي يدفن رأسه في التراب حينما يرى ما يُخفيه.
وفي مقدمة حديثنا عن موضوع هذا الجزء، نُذًّكِر هنا بأن البعض يثير اسئلة بين الفنية والأخرى عن: بعض التقسيمات فيما يتعلق بموضوع الأورام؟؛ وكذلك عن: الفرق بين كل من الحميد والخبيث منها؟، خصوصًا وأن بعضهم قد شُخصوا على أنهم مصابون بورم حميد (على حد قولهم).
وحيث أن هناك بيانات ستضطرنا لذكر بعض المسميات المتعلقة ببعض الأنواع السرطانية (تشير لها المصادر والنشرات التي نراجعها ونحقق فيها والمتعلقة بهذا الجزء والأجزاء ذات العلاقة)، بل وأنها تستدعي- أيضًا- توضيح بعض التقسيمات الطبية المرتبطة بمصطلح "سرطان"، والذي ناقشنا بعضًا من جوانبه في الجزء الأول؛ عليه فإننا نرى بأن البدء بنقاش المحور الذي يحمل بين طياته التفرعات المختلفة والرئيسة لداء "السرطان" أو "الورم" أو "التنشؤ" أصبح أمرًا ضروريًا.
نقطة نذكرها على هامش الشرح: تشمل المراجع التي نحقق فيها: الكثير من النشرات الحديثة في المجلات العلمية العالمية المحكمة، مثل مجلة السرطان الأمريكية وغيرها من مجلات علمية تعنى بأمراض السرطان وأمراض الدم، وكذلك ما تذهب إليه جمعيات السرطان المحلية والدولية مثل الجمعية الأمريكية للسرطان (ASC)، والمعهد الأمريكي الدولي للسرطان (NCI)، ومراكز الامتياز في لمواصلة أبحاث السرطان (CECCRs)، ومركز مواصلة ابحاث السرطان (CCRC)، والفيدرالية الأوروبية لأمراض السرطان (FESC)، والشراكة الأوروبية لأبحاث السرطان (EACR)، و"المايو كلينك" (Mayo Clinic)، والشراكة الأوروبية لنشر الوعي بخصوص الأمراض السرطانية (AECE)، وبقية الجمعيات والمعاهد المعتمدة في هذا المجال، والتي لا يسع المقام لتغطيتها جميعًا.
أولًا، نستطيع أن نقول بأن مصطلح ورم سرطاني (tumor) هو مصطلح يظهر على أنه مرادف لمصطلح "تنشؤ" (neoplasm)، إلا أن مصطلح ورم سرطاني (وهنا يأتي التقسيم) يعني في العادة الـ "تنشؤ" الصلب (hard neoplasm)، وهو ما أشار له الكثير من الباحثين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فلقد لمح لهذا "مارك دوسون" (Mark Dawson) وزملائه في نشرتهم لعام 2012م (Cancer Epigenetics: From Mechanism to Therapy). ولقد تم التوسع في هذا الشأن في كتاب "الموسوعة الشاملة في علم السرطانات" بمجلديه الأول والثاني (The Gale encyclopedia of cancer vol. 1 & 2) للمؤلف "الن ثاكري" (Ellen Thackery).
وبمعنى أخر أقول (وهنا أصيغ لك، عزيزي القارئ، نفس العبارة بشكل مختلف): أن مصطلح الـ "تنشؤ" يشمل، بشكل عام: (1) الورم السرطاني الصلب، وكذلك (2) التشوهات الخلوية السرطانية غير الصلبة.
لماذا لا نواجه الحقيقة كما هي، ونعمل على كشف البيانات والأرقام الموثقة، حتى نتمكن من التغلب عليها. |
وللتوضيح، وحتى يتم فهم ما نقصده هنا، نقول: أن من أمثلة الـ "تنشؤات" غير الصلبة سرطان الدم والذي يُسمى بـ "اللوكيميا" بنوعيه الحاد والمزمن (وهو مجرد مثال ولا يُقصد به الحصر)، والذي لا يظهر فيه أي ورم ملحوظ، حيث لا يبدو في شكل تكتلات نسيجية صلبة عند التشخيص، لأنه يُصيب نوع من أنواع خلايا الدم التي تسبح فيه والتي ينتجها نخاع العظم. وعلى اختلاف نوع الخلايا المصابة في الدم، تختلف التسمية والإشارة لنوع السرطان أو الـ "التنشؤ" غير الصلب، وهو ما سنتعرض له لاحقًا (أنشاء الله). أما في حال غزت الخلايا السرطانية في الدم نسيج آخر- في مرحلة ثانية من مراحل المرض- فإن هذا قد يكون سببًا لنمو بعض الأورام الصلبة.
ثانيًا، نُذَكِّر بأن الـ "تنشؤ" يُعرَّف- وكما أشرنا له في مقدمتنا في الجزء الأول- على أنه نمو خلوي مشوه أو تضخم لخلايا معينة من أنواع خلايا جسم الأنسان المعقد في تركيبه (اسميناها في مقدمتنا نسيجًا)، وذكرنا- بشكل عام أيضًا- بأن هذا التشوه يؤدي- في العادة- إلى عدم مقدرة تلك الخلايا على التحكم في انقسامها. وعليه، فإن هذا التشوه أو النمو غير الطبيعي في هذه الأنسجة يؤدي- في الغالب- إلى ظهورها على غير طبيعتها كأن تظهر بصورة غير مكتملة، أو تظهر بحجم مختلف أو بشكل مختلف أو بكليهما (وما شابه من تغيرات)، مما يجعل تلك الخلايا النسيجية غير قادرة على القيام بوظيفتها الطبيعية أو يجعلها تتصرف- وظيفيًا- بطريقة مؤذية. ويوضح ذلك "انندريز موريتز" (Andreas Moritz) في كتابه (Cancer Is Not A Disease - It's A Survival Mechanism)، وكذلك "ويبر جورج" (Weber George) في كتابه (Molecular Mechanisms of Cancer). ولقد تم التوسع في هذا الشأن في كتاب "البيولوجيا الحيوية للسرطانات البشرية" (Molecular Biology Of Human Cancers) للمؤلف "وولفجانج ارثر سشولز" (Wolfgang Arthur Schulz).
ثالثًا، أن مصطلح الـ "تنشؤ" يعني- أيضًا- تكاثر الخلايا (proliferation) بعد حدوث طفرات جينية بها (كما أشرنا بشكل غير مباشر لهذا الأمر سابقًا)، أو بعد حدوث أمرًا ما يجعلها في هيئتها غير المُعتادة. ألا أننا نذكر- بشكل عام- معلومة سنتوسع في تشريحها لاحقًا، وهي أن التشوه الخلوي النسيجي يحدث- عادة- بعد تعرض الخلايا لعوامل خارجية تؤثر عليها بطريقة سلبية، كأن تتعرض لمواد كيمائية (بجميع أشكالها: الجامدة والسائلة والغازية)، أو بعد تعرضها لإشعاعات فوق بنفسجية، أو نظرًا لوجود تهيئة وخلفية وراثية، وغيرها من أسباب؛ وهذه الجزئية تمهد للمحور المهم والذي سيناقش العوامل التي تُعد سببًا لحدوث أو لاحتمال حدوث هذه التغيرات، وهو ما سنتحدث عنه في جزء مستقل (بإذنه تعالى).
تكاثر بعض الخلايا السرطانية وأنتشارها في شكل بروز صغيرة. |
رابعًا، وفي إجابة سريعة على السؤال (عنوان هذا الجزء)، والذي يجب أن نركز عليه هنا، نقول: بأن الخلايا الـ "متنشئة"، فيما يتعلق بضررها على ما حولها من خلايا، تنقسم إلى نوعين رئيسين، هما: (1) الـ "تنشؤ" أو الورم السرطاني الخبيث (malignant)؛ (2) الـ "تنشؤ" أو الورم السرطاني الحميد (benign). فبالإضافة لما جاء في كتاب (Cancer Is Not A Disease - It's A Survival Mechanism)، فإن "جيكيترينا إيرنبريزا" (Jekaterina Erenpreisa) و"م. س. كراج" (M. S. Cragg) قد ناقشوا ذلك في مراجعتهم لعام 2001م (Mitotic death: a mechanism of survival? A review).
ففي الجانب الأول من النقطة الرابعة، نستطيع أن نقول بأن الأورام الحميدة تكون- بشكل عام- مغلفة بنسيج ليفي وغير قابلة للانتشار، وغالباً- وليس دائمًا- لا تعود للظهور مرة أخرى بعد إزالتها بشكل كامل، حيث أنها تتصف بالنمو والتكاثر المحدود (self-replicating)، وهي غير غازية (non-invasive)، أي لا تقوم بغزو الأنسجة الأخرى، ولا تنتقل من مكان لآخر. ويتم إزالة هذا النوع من الأورام- في العادة- بالتدخل الجراحي، خصوصاً عندما تكون كبيرة الحجم أو تشكل عبئاً على العضو المصاب أو على الأعضاء القريبة منها مما يمنعها من العمل بشكل طبيعي. وقد تتحول بعض الأورام الحميدة إلى أورام خبيثة، ومن أمثلة ذلك الورم الغدي الذي يظهر في القولون، والذي له القابلية للتحول مع مرور الوقت إلى سرطان القولون (السرطان الذي له ذكر مستمر في منطقتنا، اعتمادًا على الأرقام المنشورة رسمياً في مركز السجل الوطني للأورام الموجود بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض، والموثقة لدى منظمة الصحة العالمية).
ورم حميد (مغلف بكيس). |
أما في الجانب الثاني من النقطة الرابعة، فأن الـ "تنشؤ" أو الورم السرطاني الخبيث والذي يُطلق عليه- مجازًا من قبل عوام الناس- بالسرطان (cancer)، والذي يعني في العادة خباثة المرض، فهو ورم سرطاني غازي (invasive)، أي أننا إذا ما لفظنا كلمة "سرطان" فإننا نعني في الغالب أنه ورم يغزو وله القدرة على الانتقال من مكان إلى آخر (metastasis). أي أن المصطلح يُشير- بشكل عام- إلى احتمالية انتقاله وغزوه للأنسجة المحيطة به أو حتى البعيدة عنه، حيث تختلف الأنواع السرطانية بعضها عن بعض في ما يتعلق بمقدرتها على الانتقال من كان لآخر والأنسجة التي يحتمل أن تصيبها (سنتحدث عن هذا الموضوع لاحقًا وفي جزء مستقل).
ورم خبيث (مفتوح على الأنسجة). |
فبدلاً من تعويض الخلايا التالفة، تقوم الخلايا السرطانية غير الطبيعية بالتكاثر بشكل كبير ودون توقف (بسبب الخلل في انقسامها، والذي تعرضنا له مسبقًا)، فتطغى على العضو المصاب. ويتم في العادة هذا الانتقال أما عن طريق الجهاز الدوري الدموي أو عن طريق الجهاز اللمفاوي.
إنفصال الخلايا السرطانية وإنتقالها من موقعها. |
وحينما نختصر ما تحدثنا عنه في الفقرات السابقة، نقول: إذا ظهر الـ "تنشؤ" الصلب على شكل كتلة غريبة في الجسم فإنه يُسمى ورمًا سرطانيًا، يحتمل أن يكون حميدًا، وإلًا فهو خبيث. أما بخصوص الـ "تنشؤ" غير الصلب فقد وضعنا له مثالًا توضيحيًا من أجل فهم الفرق بين النوعين.
نقطة أخرى جديرة بالذكر وهي: أنه في بعض الأوقات يتم استخدام مصطلحات تبدو للشخص غير المتخصص على أنها مصطلحات جديدة، مثل: (1) "ورم محتمل الخباثة" (pre-malignancy)، أو (2) "ورم محتمل السرطنة" (pre-cancer)، أو (3) "ورم غير غازي" (non-invasive tumor)؛ وفي حقيقة الأمر فإن جميع هذه المصطلحات مرادفة لمصطلح "تنشؤ" غير غازي (وفي العادة يُقصد بها: الـ "تنشؤ" بقسمه الصلب)، والتي تُشير مجازًا بأنها حميدة، إلًا أن هذا لا يعني- أبدًا- أنها آمنة تمامًا، حيث أن احتمالية تحولها إلى "تنشؤات" خبيثة- إذا تركت بدون علاج أو تدخل طبي- أمر وارد (وكما مثلنا له- سابقًا- بالنسبة للأورام الغدية في القولون). وهو ما توضحه الكثير من المراجع الطبية في مجال السرطان، وما تأكد عليه- أيضًا- الجمعية الأمريكية للسرطان (ACS).
التدرج في نمو الخلايا السرطانية، ومثالها في هذه الصورة هو سرطان القولون. |
ويجب أن نعرف- أيضًا، بأن عملية تحول الخلايا الطبيعية لخلايا سرطانية لا تحدث بشكل مفاجئ. ولتوضيح ذلك، نقول: وكما هو متعارف عليه طبيًا، تتحول المنطقة المُصابة بالخلل في الانقسام الخلوي إلى منطقة مسرطنة بشكل تدريجي، حيث تبدأ- في العادة- بخلايا تُسمى بالخلايا غير النمطية (Atypia)، ومن بعدها إلى خلايا مختلة التنسج (dysplasia)، وفي الأخير تصل- في مرحلتها النهائية- إلى الخلايا السرطانية المتموضعة (carcinoma in-situ). وهذا التقسيم هو تقسيم عام ولا يتضمن أي تفاصيل طبية، حيث أن فهمه مهم ويساعد على فهم التحولات الميكانيكية لمرض السرطان.
وضحنا سابقًا، بأنه أينما حدث هذا الخلل في تشوه الخلايا، فإن السرطان يستمد اسمه من تلك المنطقة أو النسيج. وعليه، نقول: بأن هناك ما يزيد على مئة نوع (100) من أنواع الأمراض السرطانية الخبيثة، والتي تختلف باختلاف النسيج المكون لها، ومن أمثلتها سرطان الغدد اللمفاوية، وسرطان الرئة، وسرطان الثدي، وسرطان القولون، وسرطان الكبد، وسرطان الدم الذي يُسمى بـ "اللوكيميا" بنوعيه الحاد والمزمن (المذكور سالفًا)، وغيرها من أنواع سرطانية لا يسع المجال لتغطيتها وحصرها جميعًا في هذا الجزء، ألا أننا سنتحدث عن ما يعنينا وعن نسبها المئوية- كأبناء لهذه المنطقة- لاحقًا.
ويجب التأكيد على أن السرطان- بشكل عام- يصيب مختلف المراحل العمرية، ألا أنه وكلما تقدم الانسان في العمر أو كلما كان عرضة لبعض مسبباته، ازدادت خطورة الإصابة به.
إن الفقرات المذكورة أعلاه قد تم التعرض لها في أكثر من مصدر وقد تم التلميح لها من قبل الباحث "مارك دوسون" (Mark Dawson) وبقية الزملاء في نشرتهم لعام 2012م (Cancer Epigenetics: From Mechanism to Therapy)، وكذلك في نشرة "سبهيدب موخوبديهياي" (Subhadip Mukhopadhyay) وبقية الزملاء لعام 2014م (Autophagy and apoptosis: where do they meet?)، وفي غيرها من نشرات بحثية في مجال الأمراض السرطانية (وهي محاور يُجمع عليها الباحثون في هذا المجال)، والكتب الطبية العلمية في نفس المجال، ولا سيما الكتب المذكورة أعلاه ومثيلاتها من مراجع.
أخيرًا وليس أخرًا، ننبه مرة أخرى- وقبل إنهائنا لهذا الجزء، والذي تضمن شرحًا علميًا لبعض التفرعات وكذلك شرحًا للمصطلحات التوصيفية لهذا الداء، والتي هي جزء من القاعدة المعرفية التي وضعناها في الجزء الأول- بأن فهم محتوى هذا الجزء يُعد أمر ضروري لفهم الأجزاء المتعلقة بما سنسلط الضوء عليه من بيانات متعلقة ببعض التسميات المرتبطة ببعض الأنواع السرطانية؛ ولقد وضعنا في هذا الجزء- جنبًا إلى جنب- مع أهم المصطلحات المذكورة باللغة العربية رديفها من المصطلحات باللغة الإنجليزية من أجل أن يتفهم الجميع دائرة الحديث المعرفية، في حال لم يكن المصطلح العربي مفهومًا.
انتظرني- عزيزي القارئ- في الجزء القادم والذي سنناقش فيه زاويةً أخرى من زوايا هذا التحقيق، "الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية"، مستثمرين بعض الأدوات البحثية التحليلية والتي تساعدنا على الاستنباط والتحقيق في المصادر البحثية التخصصية والتي بها سنرسم صورة توضيحية سهلة الفهم لما نحن بصدده من شروح.
وحتى نلتقي في القريب العاجل، دعائي للمرضى بالشفاء العاجل وللأصحاء بدوام الصحة والعافية،،،
0 comments:
Post a Comment