في خضم المسميات المختلفة لأنواع السرطان المنتشرة في العالم بشكل عام، وفي المنطقة بشكل خاص، يقف الأنسان مذهولًا ومتسائلًا- في ذات الوقت- عن الأسباب التي تجعل خلايا لأورام سرطانية- قد نشأت في نسيج معين- تبحث عن حياة في نسيج آخر.
ومن خلال ما اطلعنا عليه من نشرات مختلفة في هذا المجال، فأننا نذهب مع الرأي القائل: بأن تلك الخلايا المنشقة والتي تُسمى خلايا سرطانية، هي- في واقع الحال- خلايا تائهة في ممرات الأنسجة الخلوية المعقدة لكائن حي؛ بل وأن تلك الخلايا التائهة تبحث عن حياة في مكان ما يتناسب مع طبيعتها المحورة والتي تُعد جديدة من نوعها على جسم الكائن الذي إنشقت منه؛ فإذا ما وجدت ذلك المكان المناسب لنموها، فإنها سرعان ما تبدأ بالتكاثر من أجل أن تبقى على قيد الحياة بشكل رئيس، لا من أجل أن تسبب المرض والذي هو تحصيل حاصل للسبب الأولي.
إذا، فالأورام السرطانية وكما يشير له العنوان الذي صاغه "انندريز موريتز" (Andreas Moritz) لكتابه "السرطان ليس مرضًا – إنه ميكانيكية حياة" (Cancer Is Not A Disease - It's A Survival Mechanism)، هي- بالفعل- ميكانيكية بحث عن حياة، قبل أن تكون مرضًا.
وإنطلاقًا من القاعدة التي أسسنا لها في الجزء السابق والتي وفَّرَت لنا قدرًا- لا بأس به- من المعلومات المهمة، والتي ستساعدنا على فهم الكيفية التي من خلالها تنتقل الخلايا السرطانية في جسم الكائن الحي بشكل عام، والإنسان بشكل خاص، من مكان إلى آخر؛ حيث ذكرنا- في ذلك القدر اليسير من المعلومات- مجموعة من النقاط، كان من أهم فحواها: -
- أن مكان بداية نشوء السرطان في جسم الأنسان يلعب دوراً مهمًا- بل ورئيسًا- في توقع الوجهة المستقبلية المحتملة للإصابة به في المرحلة الثانية، في حال لم تتم السيطرة عليه بشكل كلي؛
- أن معظم الخلايا السرطانية المنفصلة من موقع الإصابة الأولي تنقل من خلال مجرى الدم أو من من خلال مجرى السائل اللمفاوي، وتستمر في الإنتقال حتى تتعثر رحلتها، وذلك بعد مرورها من خلال أحد الأعضاء المعوقة لمسيرتها أو المناسبة لنموها، أو بعد أن تستقر في مجموعة من العقد اللمفاوية.
وسنستكمل في هذا الجزء مناقشة نفس المحور، وذلك من خلال إعادة طرح سؤال مباشر ينقب في زاوية محددة من زوايا ميكانيية الإنتقال والإنتشار السرطاني، ألا وهو: لماذا تحمل الخلايا السرطانية- التي نشأت في مكان محدد- القابلية للإنتقال لمناطق نسيجية- هي أيضًا- محددة وتكاد تكون معروفة لذى المتخصصين في جسم الكائن الحي بشكل عام وجسم الأنسان بشكل خاص؟
أي أننا إذا ما ذكرنا ورمًا سرطانيًا معينًا، فإننا سرعان ما نسأل عن سلامة أنسجة أخرى نتوقع أن يصل إليها ذلك الورم على وجه الخصوص.
ونستطيع- مبدئيًا- الإجابة على السؤال السابق من خلال طرح السؤال المزدوج (والذي- بين طياته- يحمل إجابات لأسئلة كثيرة، بل وفي ذات الوقت يُجيب عن نفسه وعن سابقه!)، والقائل: لماذا يُلاحظ أن سرطان الثدي في مراحله المتقدمة- غالبًا- ما تكون له القابلية للإنتقال والإنتشار في العقد اللمفاوية الموجودة في منطقة الإبط (axillary)؛ إلا أنه يُلاحظ- أيضًا- بأن هذا النوع من السرطان نادرًا ما ينتقل إلى العقد اللمفاوية الموجودة في منطقة أعلى الفخذين والقريبة من الأعضاء التناسلية (inguinal)؟
توضيح لمواقع العقد اللمفاوية والتي من ضمنها تلك الموجودة في منطقة الإبط القريبة من أنسجة الثدي، والعقد اللمفاوية الموجودة في منطقة أعلى الفخذين والبعيدة من أنسجة الثدي. |
ولقد وضعنا مقطع توضيحي لتفرعات الأوعية اللمفاوية في جسم الأنسان في الجزء السابق، إلا أننا هنا نوضح من خلال الصورة المعروضة الترابط النظامي والإقتراب النسيجي بين كل من الثديين والعقد اللمفاوية في الإبطين.
الترابط النظامي بين أنسجة الثدي والعقد اللمفاوية في منطقة الإبط، والتي تُحيط به من كل جانب. |
وبالمثل، وعلى مبدأ نفس القاعدة المشروحة سابقًا والمُشار لها في السؤال، نستطيع أن نقول: بأن الرئتين تُعدان مكانًا شائعًا للكثير من الأنواع السرطانية؛ والسبب في هذا الأمر هو أن القلب يضخ الدم- والذي يصل من كل مناطق الجسم- من خلال الأوعية الدموية (وقبل وصوله لأي مكان آخر) في الرئتين.
ملاحظة هامشية: لقد تم التعليق على زوايا مختلفة من هذا الموضوع، حيث جاء هذا في أكثر من نشرة كان من ضمنها ما أشار له الباحث "هو جم" (Hou JM) وبقية الزملاء في عام 2011 في نشرتهم (Circulating tumor cells as a window on metastasis biology in lung cancer)؛ وكذلك في نشرتهم لعام 2012 (Clinical significance and molecular characteristics of circulating tumor cells and circulating tumor microemboli in patients with small-cell lung cancer).
أما المثال التوضيحي الآخر في هذا الشأن- أيضًا- فهو الكبد، حيث تُعد (وبإتفاق كل المراجع الطبية) مكانًا شائعًا لإستقبال الخلايا السرطانية المنتقلة بصورة رئيسة ومبدئية من القولون، وسبب هذا هو أن الدم المنتقل بكميات- ليست بالقليلة- من الأمعاء يضخ إلى الكبد.
ملاحظة هامشية: من أمثلة المراجع التي ناقشت هذا الموضوع ما جاء به "بوليك تم" (Pawlik TM) وبقية الزملاء في نشرتهم لعام 2008 (Expanding criteria for resectability of colorectal liver metastases)؛ وكذلك ما جاء به "كونوبك ار" (Konopke R) وبقية الزملاء في نشرتهم لعام 2012 (Colorectal liver metastases: an update on palliative treatment options)؛ وغيرها الكثير.
توضيح لموقعية الكبد وتداخلها مع الأمعاء، وبالخصوص جزئها الأخير، ألا وهو القولون، والذي يلتف حول الأمعاء الدقيقة، وذلك من خلال إرتفاعه- أولًا- للأعلى ليلاقي الكبد، ومن بعدها يتجه بشكل أفقي للجهة اليسرى، قبل أن ينزل- بقسمه الثالث- ويصل إلى المستقيم في إمتداده الأخير، وليتجه بعدها في مساره النهائي لفتحة الشرج. |
وحتى تتضح بقية الصورة، سنسأل سؤالين لهما علاقة بالهدف الذي نسعى لتحقيقه في هذا الجزء.
أولًا، لماذا لا تستطيع بعض الخلايا السرطانية الإنتقال بسهولة إلى بعض الأنسجة، بينما نلاحظ شراسة خلايا سرطانية أخرى- من نفس النوع في شخص آخر- وسرعة إنتقالها وإنتشارها من نسيج لأخر؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال، نُذَّكِرُ مرة أخرى بأنه حينما تنفصل الخلايا السرطانية من موقع الورم السرطاني الأولي، وتبدأ في السباحة في مجرى الدم، فإنها في غالب الأحيان لا تستوطن ولا تستقر في أي مكان، مما يؤدي- مع مرور الوقت- إلى موتها (كما ذكرنا سابقًا).
وعليه وفي إجابة على السؤال المطروح، نقول بأنه حينما لا يكون السرطان قادرًا على الإنتشار في الأنسجة الأخرى، فإن هذا غالبًا ما يُعزى لبعض التغيرات الجينية التي تُضعف أو تقوي الخلايا السرطانية. ولقد بدأ العلماء- ومن خلال سلسلة البحوث التي تُجرى من قبلهم بشكل مُكثف في هذا الشأن- من تفهم بعض من خبايا ميكانيكية عملية الإنتشار السرطاني والعوامل التي تؤثر عليها؛ وهو ما تم التعليق عليه في نشرة "مارك دوسون" (Mark Dawson) وزملائه للعام 2012م (Cancer Epigenetics: From Mechanism to Therapy)؛ ولقد تم التوسع في هذا الشأن في كتاب "الموسوعة الشاملة في علم السرطانات" بمجلديه الأول والثاني (The Gale encyclopedia of cancer vol. 1 & 2) للمؤلف "الن ثاكري" (Ellen Thackery)؛ وكذلك في كتاب "ويبر جورج" (Weber George) المعنون بـ (Molecular Mechanisms of Cancer)؛ وبشكل عام، لا يوجد اختلاف على هذه النقطة من قبل الباحثين.
ونستطيع أن نقول في هذا الشأن أيضًا، بأن مراكز الأبحاث- في يومنا هذا- تعمل على قدم وساق من أجل التفريق بين الأورام السرطانية التي تُصيب نفس الأنسجة ومدى قدرتها على الإنفصال والتحرك ومن ثم الإنتقال إلى أماكن أخرى في الجسم البشري؛ حيث تعتمد تلك المراكز البحثية في عملها على دراسة التركيبة والتسلسل الوراثي لجينات الخلايا السرطانية في تلك الأنسجة المتشابهة؛ بل أن المؤشرات التي تلمح بأن اليوم الذي سيتمكن فيه العلم والدراسات البحثية من الإجابة على السؤال القائل: "هل أن الورم السرطاني الموجود عند شخص معين هو من النوع الذي يستطيع الإنتشار أو لا؟" قد أصبح قريبًا.
ولم تكتفي مراكز الأبحاث بذلك، بل أنها تتابع وتعاين التغيرات الجينية التي تطرأ على الخلية السرطانية بشكل لحظي ومفاجئ، باحثةً في ذلك عن الأسباب التي تؤدي لهذا الأمر.
وفي نطاق علمي أكثر دقة وتحدي، يقوم العلماء الإكلينيكيين- في مراكز الأبحاث المتطورة والمتوزعة على أنحاء مختلفة من العالم- بتسليط الضوء على العلاج الأنجع والقادر على إستهداف أو حجب تلك التغيرات الجينية في الخلايا السرطانية، من أجل منع نموها وإنتشارها إلى مواقع نسيجية آخرى، ولقد تم التوسع في هذا الشأن في كتاب "البيولوجيا الحيوية للسرطانات البشرية" (Molecular Biology Of Human Cancers) للمؤلف "وولفجانج ارثر سشولز" (Wolfgang Arthur Schulz)؛ وأيضًا في كتاب المؤلف "ويبر جورج" (Weber George) المذكور أعلاه.
ثانيًا، أين يكمن التحدي في عملية فهم طريقة إنتشار الورم السرطاني؟
في بعض الأوقات يواجه العلماء صعوبة في فهم وتوصيف النموذج الذي يحاكي عملية إنتشار الخلايا السرطانية المنفصلة من الموقع الأولي؛ وهنا نقصد النموذج المناسب والمشابه لأنسجة الأنسان الداخلية من أجل تطبيق التجارب العلمية والدراسات البحثية، التي تهدف إلى تسريع عملية التنقيب عن المعطيات والنتائج الإيجابية في هذا الشأن.
ونستطيع أن نقول- أيضًا- بأن السبب الرئيس في هذا التحدي هو طبيعة وموقعية الخلايا النسيجية المختلفة المكونة للأعضاء في الجسم الإنساني؛ حيث أن تداخلها النسيجي وتعقيد نظامها الفسيولوجي يُصعِّب من مهمة العلماء والباحثين في تفكيك لغز وأحجية ميكانيكية الإنتقال السرطاني؛ بل وما يزيد ذلك تعقيدًا- أيضًا- هو إختلاف وتأرجح العوامل المتعددة التي تُحيط بتلك الخلايا النسيجية في الجسم البشري، سواءًا كانت عوامل داخلية أو خارجية.
وللتوضيح وحتى تكتمل الصورة، فلقد ذكرنا- سابقًا- بأن بعض الخلايا السرطانية المنفصلة من موقع الإصابة الأصلي تملك القابلية الأولية- وفي أضعف الإيمان- على أن تبحث عن، ومن ثم تغزو أماكن محددة، قد تكون بعيدة جدًا عن الموقع الذي بدأت فيه.
فعلى سبيل المثال، فإن سرطان البروستات من النوع المتقدم دائمًا ما يغزو العظام قبل الإنتشار في أماكن أخرى قد تكون قريبة. وهذا النموذج من عملية الانتشار المصاحب لأنواع معينة من الأورام السرطانية يحتمل أن يكون مرتبط ببعض الجزيئات الموجودة على سطح الخلايا السرطانية التي تكون لها قابلية الالتصاق بخلايا نسيجية أخرى في أعضاء مختلفة من جسم الأنسان؛ ومن أمثلة الذين أشاروا لهذا الأمر الباحث "روبي جسي" (Reubi JC) في نشرته لعام 2003 (Peptide receptors as molecular targets for cancer diagnosis and therapy).
إن ما ذكرناه من نقاط دقيقة وإثارة لبعض الأسئلة البحثية المتقدمة في موضوع إحمالية إنتقال السرطان لمواقع محددة في جسم الإنسان يمهد لمحور آخر يناقش إحتمالية وقابلية إنتقال كل نوع من أنواع الأورام السرطانية لأماكن محددة من جسم الأنسان، في جزء مستقل، وذلك من أجل أن تتضح الصورة بشكل كامل، إنشاء الله.
إنتظرني- عزيزي القارئ- في الجزء القادم والذي سنناقش فيه زاويةً متقدمة من زوايا هذا التحقيق، "الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية"، مستثمرين بعض الأدوات البحثية التحليلية، والتي بها سنرسم صورة توضيحية لما نحن بصدده من شروح.
وحتى نلتقي في القريب العاجل، دعائي للمرضى بالشفاء العاجل وللأصحاء بدوام الصحة والعافية...
0 comments:
Post a Comment