إن ما تعرضنا له- في الجزء السابق- من نقاش دار حول سجل الأورام السرطانية على أنه سجل يحوي ما أسميناه بـ "أرقام تصاعدية"، يُهيئنا فكريًا لأِنْ نتحدث ولو بشيء من التمهيد- في هذا الجزء- عن العوامل المُتعلقة بنشؤ الخلايا المُسَرْطَنْة؛ والذي سأعدَه قاعدةَ مهمةَ يُرتَكز عليها ويُستحسَن أن تُفهم أولًا.
فلو تأملنا في طبيعة ذلك النمو الملحوظ لأعداد الإصابات خلال السنوات السابقة، والذي تعرضنا له من قبل، فإننا وبما لا شك فيه سنتساءل بشكل عام عن طبيعة الأسباب التي أدت لهذا التغير التصاعدي في هذه النسب!
وللتأكيد مرة ثانية، فإن النمو الملحوظ- الذي نتحدث عنه- هو النمو التصاعدي في الأرقام المسجلة رسميًا لدى المؤسسات المعتمدة وطنيًا وعالميًا، ودون التعرض لأي أرقام غير موثقة، وإن كانت متداولة على الصعيد المحلي في المؤسسات الطبية أو في المنتديات العلمية.
وفي مدخل تقديمي لهذا الجزء التمهيدي، نقول: إن من الأسباب الرئيسة لتحول الخلايا السليمة إلى خلايا سرطانية هو حدوث تغيرات في الموروث الجيني؛ حيث يحدث هذا النوع من التغير الجيني- في العادة- بسبب التعرض لعوامل مُسَرْطِنة.
ومن هنا يتولد سؤلان، أعدهما مقدمة أولية مهمة لأجزاء قادمة (كما ذكرت في بداية حديثي)، سنتحدث فيها بعمق عن محور رئيس يناقش الأسباب المرتبطة بحدوث الأورام السرطانية!
وأول هذين السؤالين هو: ماذا نقصد بالعوامل المُسَرْطِنة؟
وهو سؤال يسلط الضوء على الأسباب التي ترتبط- كما يُنَاقْشُ بحثيًا- بحالات تغير الخلايا الطبيعية إلى خلايا سرطانية.
وهنا يجب الإلتفات لدقة العبارات؛ حيث أني أستخدم عبارة "ترتبط" ولم أقل "تُسبب"، وسوف يأتي توضيح هذا فيما بعد.
أما نص السؤال الثاني، فهو كالتالي: هل يحدث تحول الخلايا الطبيعية إلى خلايا سرطانية فقط من خلال تغير الموروث الجيني؟
وبصياغة أخرى، هل التغيرات التي قد تطرأ على باقي مكونات الخلية- مع بقاء الموروث الجيني فيها سليمًا دون تغير- كافية لتحول الخلايا الطبيعية لخلايا سرطانية؟
ومن هنا نفهم بأن مكونات الخلية بشكل عام، سواء كانت حيوانية (والتي تشمل الأنسان) أو نباتية أو بدائية وما دون ذلك من خلايا يصدق عليها القول بأن وحدتها الأولية هي الخلية لا تقتصر على الموروث الجيني فقط.
صورة توضيحية للخلية بمكوناتها المختلفة، وكذلك لموقع الموروث الجيني، والذي يُسمى بالكروموسومات في وسطها، والتي تتخذ أشكال حرف "" باللغة الإنجليزية، وتحيط بالنوية في وسط النواة. |
صورة مكبرة بواسطة المجهرة الإلكتروني توضح المظهر الحقيقي لأحد الكروموسومات. |
الكروموسوم يحتوي على الجينات؛ والجينات تحتوي على الشريط الحمضي ()، والذي يتكون من الأحماض الأمينية في داخلها. |
وبالعودة مرة أخرى للسؤال الأول، نقول بأن عبارة "عوامل ترتبط" أو عبارات أخرى مشابهة مثل عبارة "عوامل تتعلق" وما شابه من عبارات إستنتاجية تُفيد: بأن الأمر لا يعني أن كل من تعرض لتلك العوامل، والتي سنُناقشها في الأجزاء القادمة، تنشئ لديه أورام سرطاينة!
إنما هذه النوعية من العبارات تعني بأن الملاحظة العلمية والإستنتاجات البحثية تُفيد- في الجانب الأول- بأن غالبية من تعرضوا لتلك العوامل قد شكوا فيما بعد من نشوء أورام سرطانية؛ وفي الجانب الأخر، وبصياغة مُغايرة، فإنها تعني أيضًا بأن غالبية من لم يتعرضوا لنفس العوامل لم ينتج لديهم (بإذن الله) بعدها أي أورام سرطانية.
إضافة لهذا، فإنه يجب أن نوضح أيضًا- وكما نستنتج من خلال تحليلينا الطبي خلال هذا التحقيق- بأن هناك نوعان من العوامل التي قد تؤدي للأورام السرطانية.
أولهما، العوامل العامة: وهي العوامل التي ترتبط بنشؤ الأروام السرطانية بصورة عامة، أيًا كان نوعُها.
ومثاله: تعرض الأنسان للإشعاعات النووية؛ فإنه يُعد عاملًا يرتبط- بشكل عام، وكما تُشير له الدارسات البحثية-ٍ بإرتفاع نسبة إحتمال تعرض الأنسان للأورام السرطانية.
ثانيهما، العوامل الخاصة: وهي العوامل التي ترتبط بنشؤ أنواع محددة من أنواع الأورام السرطانية.
ومثاله: التدخين النشط (المباشر) والتدخين السلبي (غير المباشر، أي الجلوس مع أشخاص مدخنين)؛ فإنه من العوامل التي ترفع من نسبة إحتمال تعرض الإنسان لسرطان الرئة، على وجه الخصوص.
يجدر بنا أن نوضح أيضًا، بأن العوامل المختلفة والتي قد تؤدي لأورام سرطانية هي في جانب قوة إرتباطها تنقسم لقسمين.
القسم الأول: العوامل التي تُعد عوامل ذات إرتباط عالي، مثل التعرض للإشعاعات النووية الناتجة من مادة اليورانيوم المُخصب، والتي تُستخدم في الحروب.
القسم الثاني: العوامل التي تُعد عوامل ذات إرتباط ضعيف (لكنها مسجلة في بعض الحالات، وهي في الغالب عوامل تحتاج لمزيد من الدراسات والبحوث)، مثل أكل بعض المعلبات التي تحتوي على بعض المواد الحافظة والتي يتم الإشارة لها في هيئة حروف وأرقام كتلك التي تبدأ بحرف (E) يتبعها أرقام، وما شابه عند قراءة مكونات الغذاء المكتوبة على العلبة، خصوصًا حينما يزيد تركيزها عن المعدلات المطلوبة؛ أما المثال الثاني فهو متعلق بالتعرض المستمر لبعض الدهون رخيصة الثمن، خصوصًا تلك المُستخدمة في بعض المؤكولات التي تُباع في المطاعم الخارجية، وخصوصًا تلك التي تتعرض لحرارة عالية عند تحضير بعض أنواع الرز، أو عند الشواء المباشر على الفحم وتفاعلها مع المواد الكربونية.
وخلاصة هذه المقدمة هو أن الإرتباط بعامل أو بمجموعة من العوامل، قد تؤدي إلى السرطان، يتم حسابه كنسبة مئوية.
فمثلًا: نلاحظ أن لكل مئة شخص يتعرضون للعامل (أ)، ينشأ الورم السرطاني رقم (1) في 70 شخص منهم.
وعليه، فإن هناك إرتباط نسبته 70% بين العامل (أ) والورم السرطاني رقم (1) (وهي معادلة إحصائية بإمتياز).
وبالإعتماد على نفس هذه المُعادلة الإحصائية، سنُلاحظ بأن 30% من الأشخاص الذين تعرضوا لنفس العامل لم ينشأ لديهم أي ورم سرطاني، بل وأنهم عاشوا ما تبقى من حياتهم دون أي مشاكل تُذكر في هذا المجال.
ومن هنا نخرج بخلاصة مفادها السؤال القائل: هل أن العامل (أ) هو العامل الوحيد الذي يرتبط بالورم رقم (1)، أما أن هناك عوامل أخرى يجب البحث عنها؛ وهو ما نسميه في مجال البحث والدراسات- وكما ندعي نحن جماعة المدرسة البحثية التحليلية- بتعدد العوامل التي قد تؤدي للورم (1).
وقد تشمل هذه العوامل أمور كثيرة، بعضها خارجي كتلك التي ذكرناها أعلاه، وبعضها داخلي، ومن ضمنها التهيئة الوراثية والإستعداد الفسيولوجي عند الشخص المصاب.
أما فيما يتعلق بالإجابة على السؤال الثاني، فإننا نقول: بأن الموروث الجيني- والذي يضم كل الشفرات الوراثية والملامح الفسيولوجية الظاهرة والخفية- يُعد المستودع الرئيس المسؤول عن تحديد الهيئة المستقبلية للخلايا الجديدة المنقسمة، والمسؤول كذلك عن إدارة تحديد وجهة وآلية نمو هذه الخلايا الجديدة.
وعليه، فإن أي خلل يصيب هذا المستودع، سيعني تغير الشفرات الوراثية، والتي بدورها ستؤثر على ملامح ومسار تكاثر الخلايا الناتجة عنها؛ حيث أن حجم وشكل وترتيب الخلايا الجديدة قد يتغير؛ وتبدأ بعدها في الشدود في تصرفاتها، مبتعدة عن الإنصياع للطبيعة الخلقية التي كانت عليها من ذي قبل؛ فتبدأ في الإنقسام ودون توقف، مستمرةً في إنتاج خلايا مشوهة مشابهة لها.
وما قصدته بعبارة "الإنقسام دون توقف" عند الخلايا المشوهة، هو إشارة مُعاكسة للمسار الخلوي الطبيعي (أيًا كان نوعُه) والذي يتوقف- في العادة- بشكل طبيعي بعد أن تصل الخلايا لحد مُعين من التكاثر وضغط جدران بعضها على البعض الآخر.
أن الخلايا الطبيعية تشعر بأهمية التوقف عن الإنقسام بعد أن تتزاحم نسيجيًا؛ فبعد أن تصل إلى حد معين من التزاحم فيما بينها، تبدأ في إنتاج بعض النواقل الكيميائية الحسَّاسة من أجل إيقاف عملية الإنقسام؛ والعكس صحيح، فعند توقف إنتاج تلك النواقل الكيميائية، فإن هذا سيعني الحاجة لتعويض بعض الخلايا التالفة، فتواصل عملية الإنقسام، وهكذا دواليك.
وفي حال تأثر أي جزء آخر من الخلية (غير الموروث الجيني)، فإن هذا سيعني تأثر ذلك الجزء من الخلية المصابة بشكل محدد، دون تأثر بقية أجزاء الخلية، وأيضًا دون تأثر بقية الخلايا المجاورة.
وعليه، فإن الخلية التي تأثر جزء منها قد تموت أو أنها قد تقاوم وتتكاثر بشكل طبيعي من خلال إنتاجها لخلايا سليمة؛ وفي هذا المسار ستستمد الخلايا الجديدة صفاتها من الشفرات الوراثية السليمة للخلية الأم، حتى وإن كانت هذه الخلية الأم المنقسمة متأثرة في بعض من أجزائها.
ومن هنا، فإن أهم ما يجب الإلتفات له هو الموروث الجيني للخلايا على إختلاف نوعها.
إذا، فإن كل ما يؤثر على الموروث الجيني ويغير من تسلسل الحمض الأميني فيه، سيعني تغير صفات الخلايا الجديدة الناتجة عنه.
وهنا يجب أن نفهم أن خطورة هذا التغير تعتمد على أهمية المواقع المختلفة لتلك التسلسلات الجينية التي أُصيبت بالضرر. فهناك مواقع أمينية في الجينات مسؤولة عن صفات جوهرية وأساسية في الخلية؛ وهناك مواقع أمينية في الجين مسؤولة عن صفات ثانوية وقد تكون هامشية.
والمحصلة التي أردنا الوصول إليها هي: أن حجم الضرر الناتج في الخلايا المُنقسمة سيكون مرتبط بموقع الإصابة التي حدثت على الموروث الجيني.
إن كل الذي ذكرناه في هذا الجزء من توضيح لأهمية الموروث الجيني في الخلية وكيف أنه يلعب دورًا مهمًا في عملية نقل الصفات الوراثية للخلايا الجديدة المُنقسمة، هو في واقع الأمر مجرد تمهيد- لا كثر ولا أقل- لمحور "أسباب حدوث الأورام السرطانية".
إنتظرني- عزيزي القارئ- في الجزء القادم والذي سنواصل فيه الحديث عن هذه الزاوية المهمة، والتي تناقش أسباب نشؤ الأورام السرطانية، والتي تُعد زاوية مهمة من زوايا هذا التحقيق، "الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية"، مستثمرين بعض الأدوات البحثية التحليلية، والتي بها سنرسم صورة توضيحية لما نحن بصدده من شروح.
وحتى نلتقي في القريب العاجل، دعائي للمرضى بالشفاء العاجل وللأصحاء بدوام الصحة والعافية،،،
0 comments:
Post a Comment