إبتداءًا من النقطة التي إنتهينا عندها في الجزء السابق من هذه السلسلة التتابعية، والتي كانت تناقش محورية "الموروث الجيني"، والذي عرفناه بالمستودع الذي يحوي المعلومات البيولوجية للكائن الحي، والذي إذا تأثر بفعل أي عامل، سواء كان خارجيًا أم داخليًا؛ فإن هذا سيعني- في نهاية المطاف- إحتمالية حدوث خلل في مسار الإنقسام المستقبلي للخلية؛ والذي بدوره- سيعني أيضًا- إحتمالية تغير ملامح تلك الخلية الناتجة من الخلية الأم- بشكل عام- شكلًا وحجمًا؛ وعلى إثر ذلك، تكون المحصلة هي: تأثر طبيعة الوظيفة المُناطة بها الخلية الجديدة المُنقسمة التي من المفترض أن تقوم بها بشكل طبيعي؛ وعند حدوث ذلك، تبدأ هذه الخلية- حديثة الولادة- بعدها بالتيهان بحثًا عن ملجئِ تُثَبِّتُ جذورها فيه؛ ولقد وصفنا هذا "التيهان" في أجزاء سابقة- في أساسه- بأنه: "ميكانيكية بحث عن حياة"، لا من أجل أن يُسبب مرضًا كهدف أولي له (حتى وإن نشأ المرض كتحصيل حاصل في مراحل لاحقة).
ومن هنا، سنسأل سؤالًا مترتبًا على ما فات من تمهيد لموضوع تأثر "الموروث الجيني"؛ حيث أننا أشرنا- بشكل مباشر أو غير مباشر في الجزء السابق- إلى أن من ضمن العوامل التي قد تلعب دورًا في حدوث السرطان: "التهيئة الوراثية".
والسؤال المترتب على ذلك، والذي سنطرحه بصيغ مُتعددة وتناقش زوايا تكاد تكون مختلفة، يقول: -
- في صيغته الأولى؛ إذا كان الأنسان "متُهيئًا وراثيًا" لأن يُصاب بأمراض مُعينة (والتي من ضمنها بعض الأورام السرطانية، أو حتى بعض الأمراض المزمنة الأخرى كالسكر)، إذا لماذا لا نُسَلِّم بحتمية وقوع الإصابة المستقبلية (كونها واقعة لا محالة)؟
- وفي صيغته الثانية؛ لماذا لا نتعامل مع الأمر بواقعية، ونبدأ بالتحضير لإستقباله والإستعداد له؟
- أما في صيغته الثالثة؛ لماذا نُتعب أنفسنا في البحث والتحليل عن مُسببات المرض الذي يكون إمتداده "التهيئة الوراثية"؟
هنا وقبل البدء في الإجابة على السؤال المُتعدد الصيغ في الفقرة السابقة، يجب علينا أولًا أن نذكر ملاحظةً مهمة، ألا وهي: -
- أن محورية النقاش هي "التهيئة الوراثية" لبعض المشاكل الصحية، والتي من ضمنها بعض الأمراض المزمنة (كالسكر والضغط)، بشكل عام، والمُستعصية منها (كالسرطان)، بشكل خاص، وغيرها من أمراض مُشابهة. وهذه المحورية من الحديث هي جزء من موضوع "الوراثة الجينية"، وليست هي كل ما يتعلق بموضوع "الوراثة الجينية".
وعليه، نؤكد بأن زاوية الحديث التي تناقش جزئية "التهيئة الوراثية" لبعض الأمراض المزمنة والمستعصية، تخلتف- وعلى سبيل المثال- عن زاوية الحديث التي تناقش جزئية "أمراض الدم الوراثية".
ومن هنا نقول: بأن موضوع "الأمراض الوراثية"، والتي هي عنوان لجينات مشوهة، قد اندَسَت في الكروموسومات، وتأصلت فيه، وبدأت تنتقل من جيل إلى آخر، يُعد تشوهًا في هيكلية الجينات؛ بينما تُصنف جزئية "التهيئة الوراثية" على أنها قابلية وإستعداد لحدوث المرض عند بعض الأشخاص ليس غيرُ، ولا يعني- أيضًا- حتمية حدوثه عندهم.
ونستطيع أن نختصر ذلك ونمثل له بقولنا: بأن التشوه الذي يظهر في هيكلية الجينات والمصنف تحت عنوان "الأمراض الوراثية" هو تشوه في ترتيب الأحماض الأمينية المكونة للمادة الوراثية. ومن أمثلة تلك التشوهات الجينية: أمراض الدم المنجلي، والثلاسيميا، والهيموفيليا، وغيرها من أمرض مشابهة؛ حيث تنتقل هذه التشوهات بشكل مباشر أثناء حدوث التخصيب وإلتقاء الحيوان المنوي بالبويضة، والتي يتم فيها إتحاد جينات الأم مع جينات الأب؛ وهو موضوع له زوايا تكاد تكون مختلفة في أوجهها المطروحة، وهي ليست محل نقاش في هذا الجزء من التحقيق.
نعود للمربع، الأول، والذي إنطلقنا منه، ونبدأ في الإجابة على السؤال المطروح.
لنقول-مبدئيًا-: بإن "التهيئة الوراثية" عند الإنسان هي أشبه ما تكون- عند تصويرها مجازيًا- بأكواب مصنوعة من مواد مختلفة.
فمثلًا، لو أن الشخص السليم، أي الذي لا توجد عنده "تهيئة وراثية" لمرض محدد، وليكن المرض الذي نتحدث عنه هو (أ)، كوبه مصنوع من مادة الـ "بلاستيك"؛ والشخص الـ "مهيأ وراثيًا" لنفس المرض، أي المرض (أ)، كوبه مصنوع من زجاج؛ فإن هذا سيعني بأن الشخص السليم، الذي كوبه مصنوع من الـ "بلاستيك"، سيكون أقوى في مواجهة الكدمات الخارجية، أو عند سقوط كوبه على الأرض؛ ولكن هذا لا يعني مقدرة هذا الكوب على تحمل الصدمات بشكل مُتكرر؛ وفي الطرف الآخر، فإن الكوب المصنوع من الزجاج، والموجود عند الشخص الثاني، لن تكون له المقدرة على مقاومة أي سقوط مفاجئ على الأرض، لأن هذا قد يعني تهشمه بشكل مباشر ومن أول مرة، ولكنه- أيضًا- لا يعني أننا لو حافظنا عليه من السقوط على الأرض أنه سيتهشم، فهذا الشخص لو حافظ على كأسه من السقوط واعتنى به جيدًا، فإنه حتمًا سيبقى سليمًا وقد يكون أكثر تماسكًا من كأس الشخص الأول.
وما أردت الوصول إليه من خلال هذا المثال هو القول: بأن من لديه "تهيئة وراثية"، كأن يكون هناك مجموعة لا بأس بها من أقاربه مصابون بمرض معين، وليكن هذا المرض هو سرطان القولون، مثلًا، فإن هذا سيعني ضرورة الحذر في تعامله مع كل العوامل المرتبطة بسرطان القولون أكثر من أي شخص آخر (وتشمل هذه العوامل مهيجات الجهاز الهضمي من الأغذية وبعض الزيوت؛ وسوف نتحدث عن هذا الأمر في جزء لاحق). وهنا نقول مجازًا بأن كوبه، فيما يتعلق بإصابته بسرطان القولون، مصنوع من زجاج.
وعليه، فإن من ضمن الأسئلة المهمة التي يقوم الطبيب المُتخصص بطرحها على المريض، هو السؤال المتعلق بموضوع: وجود تاريخ مرضي سابق لنفس الإصابة عند العائلة؟
وما ذكرناه حتى الآن يقع، بشكل عام، في الجانب الأول من فهم العوامل المرتبطة بما قد يصدق عليه القول بأنه من ضمن ما يُسمى بـ: "المُسببات الداخلية".
أما في الجانب الآخر، فنقول بأن الأرضية التي يعيش عليها الشخص (هو وكوبه، الزجاجي أو الـ "بلاستيكي") هي- أيضًا- مهمة ويجب النظر إليها. ويُطلق على هذا الأمر في العلوم الحديثة بـ: "نمط الحياة". أي أننا نتحدث- هنا- عن المسار العام الذي يسلكه الشخص في حياته اليومية الروتينية.
وكما وضحنا سابقًا بمثال تصوري مجازي كان موضوعه المحمول على القضية هو "الأكواب"، نقدم هنا- أيضًا- مثال آخر يُقرِّب الفكرة لك- عزيزي القارئ-، حتى تتمكن من فهم من نُشير له في هذه الجُزئية.
فنقول- مثلًا- أن من يعيش على أرضية قوامها الرخام، وكأسه الذي يحمله معه مصنوع من زجاج، ليس كمن كأسه المحمول مصنوع من زجاج ويعيش على أرضية رملية. فوقوع كأس الطرف الأول على أرضيته الرخامية، سيعني "حتمية" إنكساره؛ أما في فيما يتعلق بسقوط كأس الطرف الآخر على أرضيته الرملية، سيعني "إحتمالية" إنكساره.
بل ونضيف إلى ذلك، بأن حتى من كأسه مصنوع من الـ "بلاستيك"، سيتأثر بفعل وقوعه على الأرضية الرخامية، أكثر من تضرره عند وقوعه على الأرضية الرملية. ومن هنا تأتي أهمية ما أسميناه بـ: "نمط الحياة".
وعليه، نختصر ونقول: -
- بأننا نستطيع تشبيه الأسباب الداخلية التي لا دخل للإنسان بها، والتي من ضمنها "التهيئة الوراثية"، بالكأس؛
- ونستطيع في الجانب المقابل تشبيه الأسباب الخارجية، والتي من ضمنها "نمط الحياة"، بالأرضية.
ويجدر بنا أن نوضح هنا بأن مصطلح "نمط الحياة" هو مصطلح قاعدته عريضة، ويشمل بين طياته عناصر مختلفة، تبدأُ بالطبيعة الغذائية، لتغطي بعدها الحركة الجسمانية وفترات النوم ونوعية العمل؛ وفي طية أخرى من طياتها المتعددة، تُغطي موضوع تعرض الأنسان للتلوث البيئي بأشكاله المُختلفة، والتي تضم التلوث الضوئي الإشعاعي والنووي والكيميائي، وغيرها من أسباب خارجية، والتي سنتعرض لها بالتفصيل لاحقًا.
إذا، وعند حديثنا عن العوامل والأسباب المرتبطة بحدوث الأورام السرطانية، مثلًا، فإننا لابد وأن نقسمها لمجموعات مستخدمين معيارًا علميًا واضحًا، أو حتى معايير علمية واضحة.
وكما يتبين لنا، وبالصورة الحالية، والتي شرحناها في بداية هذا الجزء، بأن المَقْسَم الرئيس لنا خلال الشرح، والذي تعاملنا به، هنا، هو: "كونها داخلية أو خارجية؟".
وعلى هذا الأساس، ستبدأ الأسئلة بطرح نفسها بنفسها علينا؛ لنقول بعدها: -
- فإذا كانت داخلية، فهل هي متعلقة بـ "تهيئة وراثية" أو غير متعلقة بـ "تهيئة وراثية"؟
- وفيما يتعلق بالعوامل الخارجية، فهل هي ناتجة من تغير في "نمط الحياة الشخصي"، أي الذي يتحكم فيه الأنسان، والذي هو تحت سيطرته، أم أنها ناتجة من "نمط الحياة المدني"، والذي هو نتاج العبث بالبيئة، ونتاج الأثار السلبية التي يتركها سوء صياغة وتطبيق الأنظمة والقوانين وغياب إنسانية الإنسان عند التعامل مع النظام البيئي، بشكل عام؟
وقد نستخدم معايير مختلفة عند تعاملنا مع هذه العوامل؛ فنقسم العوامل الخارجية- مثلًا- بإستخدام مَقْسَم تركيبي وظيفي؛ كأن نقول: -
بأن هناك عوامل كيميائية، وهناك عوامل فيزيائية، وهناك عوامل بيولوجية، وهكذا!
علمًا بأنني أرى بأن هذه العوامل التركيبية الوظيفية هي في واقع الأمر مُتداخلة، وقد يصعب في بعض الأوقات أن نفرق بعضها عن البعض الآخر.
إن ما قدمته لك- عزيزي القارئ- في هذا الجزء هو مدخل مهم يربط الجزء السابق بالجزء اللاحق والذي سنتحدث عنه في المستقبل القريب. بل وأن كل ما تحدثنا عنه قد فتح- وكما أعتقد- آفاقًا لتصور كيفية ربط ما يُسمى بـ "التهيئة الوراثية" بموضوع "حدوث بعض الأمراض عند الأنسان".
ويجدر بنا أن نقول- أيضًا-، بأن ما ذكرناه في الكثير من فقرات هذا الجزء هو أمر مقبول علميًا وصحيح طبيًا عند تطبيقه على الكثير من الأمراض المزمنة أو المُستعصية (والتي مثلنا لبعضها في الشرح).
انتظرني- عزيزي القارئ- في الجزء القادم والذي سنناقش فيه زاويةً أخرى من زوايا هذه السلسلة التحقيقية، المرتبطة بالعنوان الرئيس وهو "الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية"، مستثمرين كل ما نملكه من أدوات بحثية تحليلية، والتي بها سنرسم صورة توضيحية لما نحن بصدده من شروح لنبدأ- أولًا- في تغطية العوامل المرتبطة بنشوء الأورام وكيفية الوقاية منها، ومن ثم سننتقل- بعدها- لفصول تناقش محاورًا مُختلفة.
وحتى نلتقي في القريب العاجل، دعائي للمرضى بالشفاء العاجل وللأصحاء بدوام الصحة والعافية،،،
بأن هناك عوامل كيميائية، وهناك عوامل فيزيائية، وهناك عوامل بيولوجية، وهكذا!
علمًا بأنني أرى بأن هذه العوامل التركيبية الوظيفية هي في واقع الأمر مُتداخلة، وقد يصعب في بعض الأوقات أن نفرق بعضها عن البعض الآخر.
إن ما قدمته لك- عزيزي القارئ- في هذا الجزء هو مدخل مهم يربط الجزء السابق بالجزء اللاحق والذي سنتحدث عنه في المستقبل القريب. بل وأن كل ما تحدثنا عنه قد فتح- وكما أعتقد- آفاقًا لتصور كيفية ربط ما يُسمى بـ "التهيئة الوراثية" بموضوع "حدوث بعض الأمراض عند الأنسان".
ويجدر بنا أن نقول- أيضًا-، بأن ما ذكرناه في الكثير من فقرات هذا الجزء هو أمر مقبول علميًا وصحيح طبيًا عند تطبيقه على الكثير من الأمراض المزمنة أو المُستعصية (والتي مثلنا لبعضها في الشرح).
انتظرني- عزيزي القارئ- في الجزء القادم والذي سنناقش فيه زاويةً أخرى من زوايا هذه السلسلة التحقيقية، المرتبطة بالعنوان الرئيس وهو "الأورام السرطانية: التنشؤات الخفية"، مستثمرين كل ما نملكه من أدوات بحثية تحليلية، والتي بها سنرسم صورة توضيحية لما نحن بصدده من شروح لنبدأ- أولًا- في تغطية العوامل المرتبطة بنشوء الأورام وكيفية الوقاية منها، ومن ثم سننتقل- بعدها- لفصول تناقش محاورًا مُختلفة.
وحتى نلتقي في القريب العاجل، دعائي للمرضى بالشفاء العاجل وللأصحاء بدوام الصحة والعافية،،،
0 comments:
Post a Comment