Tuesday 3 November 2015
November 03, 2015

ما السر في التحذير القائل بـِ "عدم إعادة تسخين بعض الأغذية مرة ثانية"؟



لقد جاء التحذير- الذي أخذ يتنقل بين أروقة شبكات التواصل الاجتماعي- المرتبط بعدم إعادة تسخين خمسة من الأغذية (عدَّها الأكثر سمية عند إعادة التسخين، وهي: السبانخ والفطر والبطاطس والبيض والدجاج) بصورة ضبابية ومُشتتة لفهم المُتلقي من القراء! حيث أنَّه حَمَلَ الأمر على الإطلاق دون بيان وتفصيل أسباب ما يرتبط بتلك الأغذية والأسس الصحية التي قد تُشير أحيانًا (وليس دائمًا) لمثل هذه التوصيات! وهل أن ما ينطبق على تلك الأغذية من توصيات تحذيرية ينطبق على غيرها؟ أم لا؟ ولماذا تم اختيارها دون بقية الأغذية؟ 

في هذا التحقيق المختصر، ستلاحظ بأنَّ ما جاء في التحذير (المُشَار له أعلاه، والذي ستتبين فحواه من خلال الاسترسال في القراءة) ليس كله صحيح وليس كله خطأ (لضبابيته وتعميمه في أسلوب الطرح)! وحتى نفهم المقصود من وراء هذه الجملة، دعني أفكك لك ما جاء في التحذير!

أولًا، يحتوي السبانخ- والكثير من الحشائش الخضراء- على تركيز عالي (إلا أنَّه متفاوت) من الـ "نترات"؛ حيث يعتمد تفاوت هذا التركيز فيها (سيما السبانخ) على نوعها والموسم الذي قُطفت فيه والتربة المُستخدمة في زراعتها وطبيعة الماء المستخدم في سقايتها. وما يجب الالتفات له هنا هو أنَّ الـ "نترات" في حد ذاتها ليس بضارة للإنسان، إلا أنَّ مشكلتها أنَّها قد تتحول إلى "نيترايت"، ومن ثم تتحول بعد ذلك إلى الـ "نيتروسامينز"؛ حيث يُصَنَّف هذا المركب الأخير فقط (أي الـ "نيتروسامينز") كمادة - يُعتقد بأنَّها - مسرطنة (كما تشير له بعض الأبحاث)، ودون أنْ يشمل هذا التصنيف المادة الأولى والمادة الثانية. ويحدث هذا الأمر - بشكل ملحوظ - عندما يتم تسخين السبانخ (وبعض الحشائش الخضراء)، ومن ثم تبريده وتخزينه، ومن ثم إعادة تسخينه مرة أخرى؛ مما يُحَفِّز الأنزيمات الموجودة في الكثير من الأنواع البكتيرية على تحويل الـ "نترات" الموجودة في محيطها إلى "نيترايت". وللمعلومية فإنَّ الـ "نيترايت" أيضًا - وللتأكيد - ليس بضار للإنسان كما أشرنا أعلاه [إلا أنَّه يُنصح بعدم إطعام الأطفال الذين أعمارهم تقل عن 6 أشهر به، كي لا يؤدي ذلك لتراكمه في أجسامهم، لأنَّه يحوِّل الهيموجلوبين الطبيعي الموجود في الدم (المسؤول عن نقل الأكسجين) إلى "ميتا هيموجلوبين" (غير القادر على نقل الأكسجين)، حيث يُعَدُّ هذا الأمر خطرًا على الأطفال وهو معروف بتسببه بمرض متلازمة "الرضيع الأزرق"]. وعلى العلم من كل هذا (وهنا انتبه لهاتين الحقيقتين)، فإنَّ الأوساط الحمضية قادرة على تحويل الـ "نيترايت" إلى "نيتروسامينز"، وهي الحقيقة الأولى؛ بل ويُضاف لهذه الحقيقة حقيقية أخرى وهي أنَّ معظم الأغذية تحتوي على نسب متفاوتة من البروتين التي لا سبيل لها - بعد الأكل - إلا المرور من بوابة المعدة ذات الوسط الحمضي؛ مما يجعل المحصلة الأخيرة - بعد دمج المعلومتين (أو الحقيقتين) السابقتين مع بعضهما - تؤشر وبشكل تلقائي إلى أنَّ عملية إنتاج الـ "نيتروسامينز" لا يمكن تجنبها بشكل عام عند أكل الأغذية البروتينية! ومن خلال ما تقدم نستطيع أنْ نفهم لماذا يُنصح بعدم إعادة تسخين السبانخ؛ (هذا أولًا)!

ثانيًا، أمَّا فيما يتعلق بالنصيحة المرتبطة بعدم تسخين الفطر، فهو راجع لنسبة الماء العالية فيه ولطبيعة تركيبته الإسفنجية والحساسة للمُتغيرات؛ حيث أنَّ بروتيناته سرعان ما تتكسر بفعل الإنزيمات خصوصًا تلك التي تفرزها الأحياء الدقيقة. ولهذا، فحينما لا يتم غسل الفطر بشكل جيد، ويتم طبخه بالطرق السريعة كتعريضه لبخار الماء فقط، ومن ثم تخزينه بطريقة غير صحية (كتركه تحت درجة حرارة المطبخ)، فإنَّ هذا - بالطبع - سيؤثر على قوامه وتركيبته. وقد جرت العادة عند القدماء (خصوصًا في الدول الغربية المشهورة بزراعة الفطر) بأنَّ لا يتم إعادة تسخين الفطر مرة ثانية؛ لتعلقه بفساده السريع (ولقد ارتبط هذا في فرنسا - خصوصًا - بنوعية الفطر ذات الخلفية البيضاء المعروفة بِـ "شامبيجننز" (champignons). أمَّا في وقتنا الحالي، واعتمادًا على الكثير من الدراسات، فإنَّ النصيحة تكمن في استخدام الفطر الطازج المغسول جيدًا واختيار المجموعة التي تظهر بلونها الطبيعي لا تلك التي عليها أثار سواد أو تغير في اللون أو التي توجد عليها بقع لا يمكن إزالتها. وحينما يتم تخزين الفطر في الثلاجة لمدة لا تتجاوز 24 ساعة فإنَّها بشكل عام لا تُسبب أي مشاكل عند إعادة تسخينها تحت درجات حرارة تفوق الـ 70 درجة مئوية. وللإضافة، فإنَّه بالإمكان إعادة تسخين الفطر المنتج في مصانع الأغذية (سواء كان مجففًا، أو مثلجًا، أو معبأً في علب، أو معقمًا) دون حدوث أي مشاكل.

ثالثًا، أمَّا بالنسبة للبطاطس، فالمُشكلة لا تكمن في إعادة تسخينه بقدر ما أنَّها تتعلق بطريقة تخزينه بعد طبخه. فحينما يتم ترك البطاطس ليبرد تحت درجة حرارة المطبخ الخارجية، ومن ثم يُترك بدون تبريد خارج الثلاجة، فإنَّ هذه الظروف ستكون - وبدون أدنى شك - مناسبة لنمو بعض الأنواع البكتيرية اللاهوائية السامة فيه، خصوصًا حينما يتم تغليفه بالألمونيوم (كما يتم فعله مع البطاطس الموضوع في الفرن في المطاعم)، حيث يتسبب هذا التغليف والطبيعة الكربوهيدراتية للبطاطس والظروف المحيطة به بتوفير بيئة لا هوائية مناسبة لتلك الأنواع البكتيرية؛ إلا أنَّني لابد أنْ أؤكد بأنَّ هذه الحالات قليلة الحدوث وتكاد لا تُذكر في أيامنا هذه، وفي نفس الوقت لا أقول بضمان عدم حدوثها البته!

رابعًا، أمَّا بخصوص البيض (والذي يشمل في تغطيته الدجاج)، فإنَّه لابد أنْ نفهم بأنَّهما من أكثر الأغذية عرضة للتلوث وبكل سهولة، لطبيعة تركيبتهما المناسبة لنمو الكثير من الميكروبات (وطبيعة البيئة المحيطة والحاضنة لكل واحد منهما من الأساس) التي يطلق على معظم الأمراض التي تحدث بسببهما - تحديدًا - بالتسمم الغذائي. وعند الحديث عن البيض على وجه الخصوص، فإنَّني أستطيع أنْ أقول بأنَّه حتى غير المكسور منه والنظيف (كما نراه بالعين المجردة) ممكن أنْ تحتوي قشرته على بعض الأنواع البكتيرية كالسالمونيلا المسببة للنزلات المعوية (وغيرها من ميكروبات لا يسعى المجال في التفصيل فيها في هذا التحقيق المبني على الإختصار)؛ حيث تُقَدِّر مؤسسة الغذاء والدواء عدد حالات السالمونيلا عند الإنسان الناتجة من البيض لوحده بـ 142000 حالة في كل عام. ولهذا فإنَّ مؤسسة الغذاء والدواء وضعت نظم ومحاذير في مزارع الدجاج والمزارع المنتجة للبيض، بل وشددت على القواعد المُتَعلِّقة بعملية نقلها وتخزينها لِتجنب مثل هذه الأمراض. ومع كل هذا، فإنَّني أؤكد بأنَّ المستهلكين هم "كلمة السر" في منع انتقال الأمراض الناتجة من البيض والدجاج لأجسادهم؛ حيث أنَّ الطريقة المثلى والفَعَّالة لمنع انتقال الأمراض القادمة من البيض والدجاج تكمن في: معرفة طرق تخزينهما والتعامل معهما قبل الطبخ، والسبل الصحية أثناء طبخهما وبعده (والتي تشمل إعادة التسخين). ليس هذا فحسب، بل أنَّ ما ينطبق عليهما منفردين ينطبق عليهما حينما يكونان جزء من مأكولات أخرى؛ فعلى سبيل المثال فإنَّ الـ "ميونيز" والكيك والكثير من المأكولات الموجودة في المخابز وفي المطاعم تحتوي على البيض، وعليه فالحديث السابق ينطبق على هذه الوجبات الغذائية أيضًا! وحينما يتم الانتباه جيدًا لتلك النظم الصحية (التي ناقشناها أعلاه) فإنَّ إعادة التسخين لن تؤثر على الأنسان (علمًا بأنَّ تغير الطعم أمر وارد).

مما تقدم نفهم بأنَّ هناك أسباب متفاوتة متعلقة بطرق نقل وتنظيف ومعاملة وطبخ وإعادة تسخين تلك الأغذية، والتي لا تشملها لوحدها، بل تشمل مثيلاتها من مجموعات غذائية لم يتم ذكرها في هذا التحقيق؛ وأنَّ هذه الأسباب لا ترتكز كلها على قاعدة واحدة، بل أنَّ ما يرتبط ببعضها قد لا يرتبط ببعضها الآخر والعكس صحيح، كما تم الإشارة له وتفكيك قواعده العلمية في مفاصل هذا التحقيق.

0 comments:

Post a Comment